المقصد الأول : الإحرام  ، ويقال : أحرم إذا دخل الحرم ، وأحرم إذا دخل في حرمات الحج أو الصلاة ، كما نقول : أنجد وأتهم ، وأصبح ، وأمسى ، إذا دخل نجدا  أو تهامة  والصباح والمساء ، ولذلك يتناول قوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم    ) . ( المائدة : 95 ) الفريقين ، ثم البحث عن حقيقة الإحرام وعن سنته . 
البحث الأول : عن حقيقته ، وفي ( الجواهر ) : ينعقد بالنية  المقترنة بقول أو فعل   [ ص: 218 ] متعلق بالحج كالتلبية والتوجه على الطريق ، واشترط  ابن حبيب  التلبية عينا لا تنعقد بدونها ، فلو تجردت النية عنهما : فالمنصوص أنه لا ينعقد ، وأجرى  اللخمي  هذا الخلاف على الخلاف في انعقاد اليمين بمجرد النية ، وأنكره  أبو الطاهر  وقال : لا خلاف في المذهب أن العبادات لا تنعقد إلا بالقول أو النية أو بالدخول فيها . وفي ( الكتاب ) : قال  ابن القاسم     : وإن توجه ناسيا للتلبية أراه محرما بنيته ، قال  سند     : وقاله ( ش )   وابن حنبل  ، واشترط ( ح ) مع النية التلبية ، ويقوم مقامها سوق الهدي كما يقوم غير التكبير عنده مقام التكبير في الصلاة ، لما في ( الموطأ ) قال عليه السلام : ( أتاني جبريل  فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال    ) ولأنها عبادة لها تحريم : فيكون له نطق كالصلاة ، والجواب عن الأول : أنه ورد برفع الصوت ، وهو غير واجب اتفاقا ، فإن لم يجب ما تناوله النص فأولى ما تضمنه ، وعن الثاني : المعارضة بأنها عبادة لا يجب في آخرها نطق فلا يجب في أولها كالصوم والطهارة ، عكسه الصلاة ، وفي ( الكتاب ) : ينوي بتلبيته الإحرام . إما حجا أو عمرة  ، ويبدأ القارن بالعمرة ، قال  ابن القاسم     : وقال لي  مالك     : النية تكفي في الإحرام ، ولا يسمي ، قال  سند     : الإحرام ينعقد بمجرد النية ، وكره  مالك  و ( ش ) التسمية ، واستحبها   ابن حنبل  ، لما في  أبي داود  قال عليه السلام : ( أتاني الليلة آت من ربي وقال : قل : عمرة في حجة   ) وجوابه : أنه   [ ص: 219 ] محمول على الكلام النفساني ، وحديث  جابر  ليس فيه تسمية ، وسمع   ابن عمر     - رضي الله عنهما - رجلا يقول : لبيك بحجة ، فضرب في صدره وقال : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك    ) .   ( المائدة : 116 ) . 
( تنبيه ) في ( الجواهر ) : وصرح  أبو الطاهر  في كتابه ،  واللخمي  في ( التبصرة ) بأن النية  إذا تجردت عن القول أو الفعل المتعلق بالحج لا ينعقد الحج ، وقد تقدم تصريح ( الكتاب )  وسند     : أن النية كافية ، وبه صرح القاضي في ( التلقين ) فقال : الإحرام هو اعتقاد دخول في الحج  ، وبذلك يصير محرما ، وهذا في غاية التصريح ، قال صاحب ( المعلم ) : ينعقد الحج بالنية  وحدها كما ينعقد الصوم عند  مالك  و ( ش ) فهذا الصريح والتشبيه في غاية القوة ، وبذلك صرح صاحب ( القبس ) وجماعة من الشيوخ ، وقال  سند     : لو نوى وأقام كان محرما ، وهو المحكي عنهما في الخلافيات فليعلم ذلك . 
 ( قاعدة ) : النية إنما شرعها الله تعالى لتمييز العبادات عن العادات  ، أو لتمييز مراتب العبادات ، وقد تقدمت مباحث النية مستوعبة في الطهارة فلتراجع من هناك ، ومن شرط المميز أن يفارق الذي يميزه ، وإلا فليس نسبته إليه أولى من غيره ، خولفت هذه القاعدة في الصوم للضرورة ، وفي الطهارة مع القرب اليسير على الخلاف في اليسارة ، فإذا جعلنا الإحرام مجرد النية كما صرح به  المازري  وغيره من المحققين ، وكما قاله في ( الكتاب ) : فأفعال الحج تتأخر عنها بالشهور ، ولا يمكن أن يقال : هو ملابس للانكفاف عن محرمات الحج ; لأنه لو لابسها إلا الجماع صح إحرامه ، ولا يمكن الاكتفاء بالانكفاف عن الجماع لصحة إحرام الجاهل بتحريمه فلا يكون منويا له بجهله به ، ومن شرط النية  أن يدخل بها في   [ ص: 220 ] المنوي ، بل قد نقل  سند     : أن الإحرام ينعقد منه وهو يجامع ، ويلزمه التمادي والقضاء ولم يحك خلافا بل ذكر ما يدل على الاتفاق على ذلك من المذاهب ، أما من اشترط التلبس ببعض أفعال الحج أو أقواله أو التلبية عينا أو التلبية وسوق الهدي فهو متجه لدخوله بالنية في المنوي . 
تفريع : في ( الجواهر ) : لو أحرم مطلقا لا ينوي حجا ولا عمرة    : قال  أشهب  والأئمة : من هو بالخيار في صرفه إلى أحدهما ، وإلى الحج أفضل ، وقال أيضا : إلى القران أفضل لما تقدم من إحرام  علي     - رضي الله عنه - في حديث  جابر  ، ولأنه يصح التزامه مطلقا فينعقد كذلك ، ورأى في القول الثاني : أنه لما صح لهما صرف لهما لعدم الأولوية ، ولو اختلف العقد والنية ، فالاعتبار بالعقد ، وروي ما يشير إلى النطق ، وروى  ابن القاسم     : إن أراد أن يحرم مفردا فأخطأ فقرن  ، أو تكلم بالعمرة فليس بشيء وهو على حجه ، وقاله ( ش ) . وقال في ( العتيبة ) : رجع  مالك  فقال : عليه دم ، والفرق على القول باعتبار النطق بين الحج والعبادات : أن الإحرام له قوة الانعقاد مع منافي العبادة وهو الجماع ، كما قاله  سند  ، فلما قوي أمكن أن يعتبر نطقه بخلاف العبادات لا تنعقد مع بطلانها ، وإن أحرم مفصلا فنسي ما أحرم به فهو قارن عند  أشهب  احتياطا ، وقال غيره : يحرم بالحج ويعمل حينئذ على القران ، ولو شك : هل قرن أو أفرد ، تمادى على نية القران احتياطا ، وإن شك : هل أحرم بالحج وحده أو بالعمرة    : طاف وسعى لجواز العمرة ، ولا يحلق لإمكان الحج ، ويتمادى على الحج ويهدي لتأخير الحلاق لا للقران ; لأنه لم يحدث نية ، وإنما أحرم بشيء واحد إما حجا ويكون ما تقدم من الطواف والسعي له ، أو بغيره فلا يضره تماديه بعد ذلك ، قال  سند     : ولو نوى الحج ولم ينو حجة الإسلام  انصرف   [ ص: 221 ] إليها إن كان صرورة لقوتها ، فإن نوى النفل : فقال ( ش ) : ينصرف إلى الفرض ، وكذلك إذا نوى عن غيره ، ولو أحرم بما أحرم به فلان وهو لا يعلمه جاز عند  أشهب  والشافعية لقضية  علي     - رضي الله عنه - ولو أحرم مطلقا ولم يعين حتى طاف : فالصواب أن يجعل حجا ، ويكون هذا طواف القدوم ; لأن طواف القدوم ليس ركنا في الحج ، والطواف ركن في العمرة ، وقد وقع قبل تعينها . 
والأفضل في الإحرام تعيين النسك  خلافا ل ( ش ) محتجا بأنه عليه السلام خرج من المدينة  لا ينوي حجا ولا غيره ، ينتظر القضاء ينزل ، فنزل عليه بين الصفا  والمروة  ، فأمر أصحابه من أهل ومن لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة ، ولأنه أحوط لاحتمال طريان الموانع لنا : حديث  جابر  أنه أهل بالحج . ولأن التعيين هو الأصل في العبادات ، ويحمل الحديث على أنه خرج من المدينة  كذلك ، وأحرم عند الميقات ، وكذلك خرجه  ابن داود  عن  أبي عمر  جمعا بين الأحاديث ، وفي ( الكتاب ) : لا يكون محرما بتقليد الهدي وإشعاره ، ولو أراد الذهاب معه ، وقاله ( ش ) ; لأن الإحرام بالنية ، وقال ( ح )   وابن حنبل     : هو محرم ; لأن ذلك من شعار الإحرام فأشبه النية والتلبية ، ويبطل عليها بما لو أرسله مع غيره ، ولو نوى وأقام كان محرما ، ولنا : القياس على التجريد من المخيط ، وفي ( الكتاب ) : قال  ابن القاسم     : إن أتى الميقاة مغمى عليه فأحرم عنه أصحابه  لا يجزئ ، خلافا ل ( ح ) محتجا بأن ذلك معلوم من قصده ، وتلحقه المشقة ولولا ذلك ، وجوابه : أنه لو وكل في ذلك لم يصح مع تقدم القصد منه ، والفرق عندنا بينه وبين الصبي وإن   [ ص: 222 ] كان حج لا يصح الإحرام عن الصبي : أن الصبي تبع لغيره في أصل الدين ، والحج ركن الدين بخلاف هذا ، ولأن الصبي ثبت بالنص والصبا يطول بخلاف غيره ، ولذلك سلم ( ح ) المجنون المطبق ، قال  سند     : فإن أفاق قبل الوقوف فالأحسن رجوعه لميقاته ، فإن أحرم من مكانه : قال  ابن القاسم     : لا دم عليه ، وفي ( الكتاب ) : قال  ابن القاسم     : إن رفض إحرامه لا يضر ، قال  سند     : إن رفضه للدخول في جنسه كفسخ في عمرة أو حج في حج ولا يختلف في بقائه على الأول ، أو غير جنسه ، فإن كان الأول عمرة فأراد بقاءها مع الحج والوقت قابل للإرداف فهو قارن ، وإن أراد قلب الأول إلى الحج فهو اعتقاد فاسد ولا ينقلب ، وإن كان الأول حجا فاعتقد بطلانه فهو باق عليه ، ولا تدخل العمرة على الحج ، وإن اعتقد انقلابه عمرة لم ينقلب ، وقال   ابن حنبل     : ينقلب إن لم يسق هديا . لما في حديث  جابر     : أنه عليه السلام أهل هو وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي إلا النبي  وأبو طلحة  ، فأمر عليه السلام أن يجعلوها عمرة ولأن من فاته الحج يصير إحرامه عمرة  ، فكذلك يصير بالفسخ . لنا : ما روي أنه قيل له : يا رسول الله ، الفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا ؟ قال : بل لنا خاصة ، ولأنها عبادة لا يخرج منها بالفوت فلا يخرج بالنية كالعمرة وإنما أمر بالفسخ ; لأن الجاهلية كانت تنكر الاعتمار في أشهر الحج  ، ويقولون : إذا عفا الوبر ، وبرئ الدبر ، وانسلخ صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر ، والفرق بين الفوت والفسخ : أنه لدفع صرورة البقاء سنة بخلاف الفسخ ، أما لو رفض إحرامه إلى غير شيء فهو باق عند  مالك  والأئمة خلافا  لداود     ; لأنها عبادة لا يبطل إحرامها بالمنافيات ، وأعظم أحوال الرفض أن يكون منافيا . 
 [ ص: 223 ]   ( فائدة ) المراد بعفا الوبر ، أي كبر على ظهور الإبل بسبب إراحتها من السفر للحج ، وهو من أسماء الأضداد : عفا : زاد ، وعفا : نقص وزال ، فمن الأول : قوله تعالى : ( حتى عفوا    ) . ( الأعراف : 95 ) أي كثروا ، ومن الثاني : عفا الله عنا : أي محا ذنوبنا وأزال آثارها ، ويروى عفا الدبر ، وهو تقرح ظهور الإبل من السفر للحج . 
تمهيد : قال صاحب ( النكت ) : رفض النية في الحج والوضوء  لا يضره ، بخلاف الصوم والصلاة ; لأن النية مرادة للتمييز في العبادات عن العادات ، أو لتمييز مراتب العبادات ، والحج متميز بمواضعه المخصوصة ، والوضوء بأعضائه المعينة ، بخلاف الآخرين ، فكان احتياجهما إلى النية أقل ، فكان تأثير الرفض فيهما أبعد ، قال  سند     : والصبي الذي لا يميز يصير محرما بإحرام وليه عند  مالك  و ( ش )   وابن حنبل  ، لما في الصحيحين : ( أنه عليه السلام لقي ركبا بعسفان  وذكر الحديث إلى أن قال : فرفعت له امرأة صبيا من محفتها فقالت : ألهذا حج ؟ قال : نعم ، ولك أجر   . وقال ( ح ) : لا يكون محرما بإحرام وليه ، كما لا يلزمه نذر وليه . 
				
						
						
