[ ص: 220 ] باب كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب بالخرص
قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن الزهري عن ابن المسيب عن عتاب بن أسيد وبإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم " يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم ليهود خيبر حين افتتح خيبر . أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم قال : فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه
قال الماوردي : وهذا صحيح .
فقد تعلق وجوب الزكاة بهما ، ووجب خرصهما للعلم بقدر زكاتهما ، فيخرصهما رطبا وينظر الخارص كم يصير تمرا فيثبتها تمرا ، ثم يخير رب المال فيها ، فإن شاء كانت في يده أمانة إلى وقت الجداد وليس له التصرف فيها ، وإن شاء كانت في يده مضمونة وله التصرف فيها ضمنها ، فيستفاد بالخرص العلم بقدر الزكاة فيها ، واستباحة رب المال التصرف في الثمرة إن شاء بشرط الضمان ، هذا مذهبنا ، وبه قال من الصحابة إذا بدا صلاح ثمار النخل والكرم أبو بكر ، وعمر كرم الله وجوههما ، ومن التابعين عطاء والزهري ومن الفقهاء مالك وأبو ثور .
[ ص: 221 ] وقال أبو حنيفة والثوري : لا يجوز احتجاجا برواية خرص الثمار جابر أن النبي ، صلى الله عليه وسلم نهى عن الخرص ورواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كل ذي ثمرة بخرص قالوا ولأن الخرص تخمين وحدس : لأن الخارص لا يرجع فيه إلى أصل مقدر ولا يعمل على مثال متقدم ، وإنما يرجع فيه إلى ما يقوى في نفسه ويغلب على ظنه ، وقد يخطئ في أكثره وإن أصاب في بعضه فلم يجز الأخذ به ولا العمل عليه ، قالوا ولأنه لو جاز خرص الثمار ليعلم به قدر الصدقة لجاز خرص الزروع ليعلم به قدر الصدقة ، فلما لم يجز في الزروع لم يجز في الثمار .
وتحريره قياسا : أنه جنس تجب فيه الصدقة فلم يجز تقدير ثمرته بالخرص كالزرع ، قالوا : ولأن خرص الثمار بعد جدادها أقرب إلى الإصابة من خرصها على رءوس نخلها ، فلما لم يجز في أقربهما من الإصابة لم يجز في أبعدهما ، قالوا ولأن الخرص عندكم يتعلق به حكمان :
أحدهما : العلم بقدر الصدقة وذلك غير موجود : لأن رب المال لو ادعى غلطا أو نقصانا صدق .
والحكم الثاني : تضمين رب المال قدر الصدقة ، وذلك غير جائز من وجهين :
أحدهما : أنه بيع رطب بتمر .
والثاني : أنه بيع حاضر بغائب ، فإذا كان ما يستفاد بالخرص من الحكمين معا باطلا ثبت أن الخرص غير جائز .
والدلالة على جواز الخرص ورود السنة به ، قولا وفعلا وامتثالا .
فأما القول فما رواه الشافعي في صدر الباب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الخرص علما لمعرفة الحق ، وجعل لأرباب الأموال أن يؤدوا زبيبا وتمرا على ما خرج بالخرص ، ولم يجعل ذلك من المال ولا من غيره . قال في الكرم : يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا
وأما الفعل فما روي وأما الامتثال فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرص حديقة امرأة بوادي القرى عشرة أوسق فلم تزد ولم تنقص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له خراصون مشهورون [ ص: 222 ] ينفذهم لخرص الثمار ، منهم حويصة ، ومحيصة ، وسهل بن أبي حثمة ، وعتاب بن أسيد ، وعبد الله بن رواحة ، وأبو بردة ، وابن عمر ، وقيل عمر بن الخطاب ، أيضا فكانوا يتوجهون لخرص الثمار : امتثالا لأمره واتباعا لرسمه ، وروى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، وفيه تأويلان : أحدهما : وهو تأويل إذا خرصتم فدعوا لهم الثلث ، فإن لم تدعوا لهم الثلث فدعوا لهم الربع الشافعي في القديم أنه يترك لهم الثلث أو الربع من الزكاة ليتولوا إخراجه في فقراء جيرانهم ، بل قد روي في بعض الأخبار أنه قال صلى الله عليه وسلم فإن في المال الوصية والعرية .
والثاني : أن يخرص عليهم جميعه ثم يدفع إليهم الثلث أو الربع ليتصرفوا فيه ويأكلوه ، وهو قوله في الجديد .
وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للخراص : " إذا بعثتم احتاطوا لأهل الأموال في النائبة والواطئة وما يجب في الثمرة من الحق " ، وفي النائبة تأويلان :
أحدهما : الأصناف .
والثاني : ما ينوب الأموال كالجوائح .
وفي الواطئة ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الواطئة المارة والسابلة ، سموا بذلك لوطئهم الطريق ، وهذا قول ابن قتيبة .
والثاني : أن الواطئة سقاطة الثمر وما يقع منه في الأرض فيوطأ ، حكاه أبو سليمان الخطابي واختاره .
والثالث : أنها الوطايا واحدها وطية ، وهي تجري مجرى العرية ، وسميت وطئة : لأن صاحبها وطأها لنفسه أو لأهله ، فلا تدخل في الخرص ، وهذا قول أبي سعيد الضرير .
وروت عائشة رضي الله عنها عبد الله بن رواحة إلى خيبر خارصا فخرص أربعين ألف وسق ، ثم خير اليهود بين أن يأخذوه ويدفعوا عشرين ألف وسق وبين أن يأخذه ويدفع إليهم عشرين ألف وسق ، فقالوا هذا هو الحق وبه قامت السماوات والأرض .
[ ص: 223 ] وفي رواية الشافعي أنه قال : " إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي " ومعناهما واحد .
وروي في الخبر أن اليهود جمعوا له حليا من حلي نسائهم وسألوه أن يخفف عنهم الخرص ويأخذ منهم الحلي فأبى عليهم وقال : إن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ، وإنكم أبغض الناس إلي وإن بغضي لكم لا يحملني على الحيف عليكم ، وروي أنه كان رضيعا منهم وحليفا لهم ، فإن قالوا : الاستدلال بهذا الخبر لا يصح ، ولا يجوز أن يكون حجة في جواز الخرص : لأنه ورد عام الرشوة سحت خيبر سنة سبع قبل بدو تحريم الربا ، ثم نزل تحريم الربا ناسخا له : لأن تحريم الربا نزل أخيرا ، بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صعد المنبر فخطب ثم قال : إن آخر آية نزلت آية الربا فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثبتها ، قيل : إن كانت آية الربا نزلت أخيرا فتحريم الربا كان متقدما بالسنة قبل ، يدل على ذلك رواية حكم الخرص فضالة بن عبيد قال : بخيبر قلادة فيها ذهب وخرز من المغنم بذهب ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا حتى تميز " لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل على أنه ليس تحريم الربا مانعا من جواز الخرص ، ولو كان مانعا منه ما عمل به بيع يوم فتح مكة وهو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يبعث ابنه عبد الرحمن خارصا على أهل خيبر .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث ابنه عبد الله خارصا على أهل خيبر فسحر حتى تكوعت يده ، ثم أجلاهم عمر عنها ، وليس ، لها في الصحابة مخالف فثبت أنه إجماع .
فإن قيل : فعبد الله بن رواحة إنما خرص على أهل خيبر ثمار المساقاة لا ثمار الزكاة : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتحها ساقاهم على النصف من ثمرها ، وأنتم تمنعون من الخرص في المساقاة ، فكيف يصح استدلالكم به على جواز الخرص في الزكاة : قيل : خرص ثمار خيبر كان لأجل الزكاة ، ولأجل المساقاة : لأن نصف ثمارها كان لهم بالمساقاة ، ونصفها للمساكين بالغنيمة ، والزكاة في أموال المسلمين واجبة ، وتضمينها لليهود العاملين فيها جائز ، فكان الخبر دالا على وجوب ، ودالا على جواز الخرص في الزكاة ، ولنا فيه كلام نذكره ، ويدل على جواز الخرص من طريق المعنى والنظر وجود الرفق به ، ودخول الضرر بفقده : لأنه لا يخلو من أن يمنع أرباب الأموال من التصرف في ثمارهم ، أو يمكنوا فإن منعوا منها أدى ذلك إلى فوات البغية العظيمة في إتمامها ومن الناس من ابتياعها وفوات شهوتهم من أكلها ، وإن مكنوا لم يخل من أحد أمرين : إما أن يمكنوا بخرص أو بغير خرص فإن مكنوا بغير خرص أدى ذلك إلى إدخال الضرر على المساكين ، لما فيه من إضاعة حقوقهم ، [ ص: 224 ] وتمحيق صدقتهم ، وإن مكنوا بخرص ارتفق أرباب الأموال بتعجيل المنفعة ، وارتفق المساكين بحفظ الصدقة ، فكان الخرص رفقا بالفريقين وفي المنع منه ضرر من وجهين ، فأما الجواب عن خبر الخرص في المساقاة ابن جابر فهو وارد في البيع ، بدليل نهيه عن المزابنة وإرخاصه في العرايا أن تباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق ، وأما قولهم إن الخرص تخمين وحدس لاختلافه فغلط ، إنما هو اجتهاد وليس وجود الاختلاف فيه : لأنه اجتهاد ، وأما قولهم لما لم يجز لم يجز في الثمار ، فالفرق بينهما من وجهين : الخرص في الزروع
أحدهما : أن للزرع حائلا يمنع من خرصه ، وليس لثمر النخل حائل يمنع من خرصه .
والثاني : أن الحاجة غير داعية إلى خرص الزروع : لأن الانتفاع بما قبل الحصاد غير مقصود ، وأما قولهم لما لم يجز خرصها على الأرض بعد الجداد لم يجز قبله ، فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن ما على الأرض يمكن كيله ، فلم يجز خرصه : لأن الكيل نص والخرص اجتهاد ، وما على النخل لا يمكن كيله فجاز خرصه : لأن . فقد النص مبيح للاجتهاد
والثاني : أن ما على الأرض يمكن أخذ زكاته في الحال فلم يحتج إلى تقديره بالخرص ، وما على النخل لا يمكن أخذ زكاته في الحال فاحتاج إلى تقدير بالخرص ، وأما قولهم : إن ما يقصد به من معرفة القدر باطل ومن التضمين فاسد ، فالجواب عنه أن يقال : إنما أبطلتم الخرص : لأن رب المال لو ادعى غلطا أو نقصانا صدق وهذا فاسد بعد الماشية : لأنها تعد على ربها ولو ادعى غلطا يمكن مثله صدق ، وأبطلتم التضمين : لأنه بيع رطب حاضر بثمن غائب ، وهذا ليس ببيع من وجهين :
أحدهما : أن الزكاة تخرج من تمرها لا من رطبها .
والثاني : أن ما ضمنه من الزكاة هو الواجب فيها ، لا أنه بدل الواجب منها ، فثبت جواز الخرص بما ذكرنا ، والله أعلم .