مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وأصل الحنطة والتمر الكيل فلا يجوز أن يباع الجنس الواحد بمثله وزنا بوزن ، ولا وزنا بكيل : لأن الصاع يكون وزنه أرطالا وصاع دونه أو أكثر منه ، فلو كيلا كان صاع بأكثر من صاع كيلا " .
قال الماوردي : وهذا كما قال .
عادة كل شيء فيه الربا إذا بيع بجنسه فالاعتبار في تماثله بالكيل والوزن أهل الحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان بالحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أصله الكيل ، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا كيلا .
وما كان موزونا كان أصله الوزن ، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا وزنا ، ولا اعتبار بعادة غير أهل الحجاز ولا بما أحدثه أهل الحجاز بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال مالك : يجوز أن يباع ما كان مكيلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزنا بوزن ، كالتمر الذي قد جرت عادة أهل البصرة ببيعه وزنا ، ولا يجوز أن يباع ما كان موزونا كيلا بكيل . وقال أبو حنيفة : أما الأربعة المنصوص عليها فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلا بكيل .
ولا اعتبار بما أحدثه الناس من بعد ، وأما ما سوى الأربعة فالاعتبار فيها بعادة الناس في بلدانهم وأزمانهم ولا اعتبار بالحجاز ولا بما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فأما مالك فاستدل على ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إلا مثلا بمثل " بيع البر بالبر . والتماثل معلوم بالوزن كما هو معلوم بالكيل . " نهى عن
قال : ولأن الوزن أخص من الكيل ، فلذلك جاز بيع المكيل وزنا ، ولم يجز بيع الموزون كيلا .
وأما أبو حنيفة فاستدل بأن الأربعة منصوص على الكيل فيها فلم يجز مخالفة النص ، وما سوى الأربعة فالاعتبار فيه بالعادة .
وعادة أهل الوقت أولى أن تكون معتبرة من أوقات سالفة وبلا مخالفة : لأن التفاضل موجود بمقادير الوقت .
والدلالة على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل يدا بيد " . فنص على التساوي بالكيل فاقتضى ألا يعتبر فيه التساوي بالوزن : لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل ، ولأنه قد يتساوى البر بالبر كيلا ويتفاضلان وزنا ، كما أنهما قد يتساويان وزنا [ ص: 107 ] ويتفاضلان كيلا ، والتفاضل فيه محرم ، فلو اعتبر التساوي بالوزن : لأنه أخص لاقتضى ألا يعتبر التساوي بالكيل لأنه ليس أخص .
ولأنه ربما أدى إلى التفاضل في الوزن الذي هو أخص ، فلما جاز اعتبار التساوي فيه بالكيل وإن جاز التفاضل في الوزن ، وجب ألا يجوز اعتبار التساوي بالوزن لجواز التفاضل في الكيل ، ولو كان مخيرا في اعتبار التساوي فيه بالكيل والوزن لكان مخيرا بين أن يجري عليه حكم التماثل فيحل أو يجري عليه حكم التفاضل فيحرم . وهذا متناقض .
وأما أبو حنيفة فالدلالة عليه ما روى طاوس عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " . " المكيال مكيال
وليس هذا القول إخبارا منه بانفراد المدينة بالمكيال ومكة بالميزان : لأن مكيال غير المدينة وميزان غير مكة يجوز التبايع به ، واعتبار التماثل فيه ، فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه وعادة أهل مكة فيما يزنونه .
ولأنه لو أحدث الناس عادة في الدراهم والدنانير أن يتبايعوها عددا لم يجز أن يكون العدد معتبرا في بعضها ببعض اعتبارا بما كانت عليه في الحجاز من قبل .
وكذا الأربعة التي قد ورد فيها النص ، لو خالف الناس فيها العادة لم يجز أن يكون الحادث رافعا لسالف العادة ، فوجب أن يكون ما سوى ذلك معتبرا في تماثله بسالف العادة .
وتحرير ذلك علة أنه جنس يحرم فيه التفاضل فوجب أن يكون اعتبار التماثل فيه بالمقدار المعهود على زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالذهب والفضة والأشياء الأربعة .
وهذه علة تعم مالكا وأبا حنيفة وفيها انفصال عما استدلا به .
فصل : فإذا ثبت أن اعتبار المكيل والموزون بما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيلا أو موزونا لم يخل من أحد أمرين : حال الجنس الذي فيه الربا
إما أن يكون معروف الحال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مجهول الحال .
فإن كان معروف الحال راعيت فيه ما عرف من حاله ، فإن كان مكيلا جعلت الكيل فيه أصلا ومنعت من بيعه وزنا ، وإن كان موزونا جعلت الوزن فيه أصلا ومنعت من بيعه كيلا .
فعلى هذا قد كانت الحبوب على عهده مكيلة ، والأدهان مكيلة ، والألبان مكيلة ، وكذلك التمر والزبيب وإن كان مجهول الحال أو كان من مأكل غير الحجاز راعيت فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد فجعلته أصلا .
فإن كان العرف وزنا جعلت أصله الوزن ، وإن كان العرف كيلا جعلت أصله كيلا .
[ ص: 108 ] وإن لم يكن للناس فيه عرف غالب ، فكانت عادتهم تستوي في كيله ووزنه ، فقد اختلف فيه أصحابنا على أربعة مذاهب :
أحدها : تباع وزنا : لأن الوزن أخص .
والثاني : تباع كيلا : لأن الكيل في المأكولات نص .
والثالث : أنه يعتبر بأشبه الأشياء به مما عرف حاله على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيلحق به : لأن الأشباه متقاربة .
والرابع : أنه مخير فيه بين الوزن والكيل لاستواء العرف فيه . .
فصل : إذا بما قد عرف من حاله أن التماثل فيه بالكيل ، فقد اختلف أصحابنا - هل يجوز بيع بعضه ببعض وزنا ؟ - على وجهين : كانت ضيعة أو قرية يتساوى طعامها في الكيل والوزن ، ولا يفضل بعضه على بعض
أحدهما : لا يجوز : لما فيه من مخالفة النص وتغيير العرف .
والثاني : يجوز ، ويكون الوزن فيه نائبا عن الكيل للعلم بموافقته ، كما كان مكيال العراق نائبا عن مكيال الحجاز لموافقته في المساواة بين المكيلين .
فصل : إذا ، كان البيع باطلا : لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل ، ولو تبايعا على المكايلة والمماثلة صح البيع . تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام جزافا ، ثم كيلا من بعد فوجدتا سواء
فإن كانتا سواء لزم العقد ولا خيار لواحد منهما ، ولو فضلت إحدى الصبرتين على الأخرى ، ففيه قولان :
أحدهما : بطلان العقد : لأن العقد يتناول جميع الصبرتين مع ظهور التفاضل .
والقول الثاني : جواز العقد : لاشتراط التماثل . فعلى هذا يأخذ صاحب الفضل زيادته ويكون لصاحب الصبرة الناقصة الخيار في فسخ البيع لتفريق الصفقة أو إمضاء البيع بمثل صبرته .