مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يجوز بيع تمر برطب بحال : لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " " فنهى عنه فنظر إلى المتعقب " . أينقص الرطب إذا يبس ؟
قال الماوردي : وهذا كما قال .
[ ص: 131 ] لا يجوز ، وبه قال بيع التمر بالرطب مالك ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وعامة الفقهاء . وقال أبو حنيفة : يجوز .
استدلالا بأن التمر والرطب ليس يخلو حالهما من أن يكونا جنسا واحدا أو جنسين .
فإن كانا جنسا واحدا جاز بيع بعضه ببعض متساويا حال العقد .
وإن كانا جنسين فبيع أحدهما بالآخر أجوز .
قال : ولأن الرطب نوع من التمر ينقص باليبس وطول المكث ، فلم يجز أن يكون ذلك مانعا من بيعه بتمر من جنسه ، هو أكثر من يبسه ، كما جاز بيع التمر الحديث بالتمر العتيق ، وإن كان الحديث ينقص إذا صار كالعتيق .
قال : ولأن التماثل في الجنس معتبر بحال العقد ، ولا اعتبار بحدوث التفاضل فيما بعد ، كالسمسم يجوز بيعه بالسمسم إذا تماثلا ، وإن جاز بعد استخراجهما دهنا أن يتفاضلا .
قال : ولأنه لما جاز عندكم بيع العرايا وهي تمر برطب على رءوس النخل ، لا يقدر على تماثلهما كيلا إلا بالخرص ، كان بيع التمر بالرطب المقدور على تماثلهما بالكيل أجوز ، وهو من الربا أبعد .
والدلالة على ما قلنا رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن بيع العنب بالزيت كيلا ، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا بيع الرطب بالتمر كيلا . وهذا نص . نهى عن
فإن قيل : إنما خص بالنهي التمر بالرطب إذا كان على رءوس النخل : لأنه وارد في المزابنة . قيل : هذا تأويل يفسد من وجهين :
أحدهما : أنه تخصيص عموم بدعوى .
والثاني : أنه نهى عن ذلك بالكيل ، وكيل ما على رءوس النخل غير ممكن ، فعلم أن النهي وارد فيما الكيل فيه ممكن .
وروى بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن قيل : فيحصل النهي عن بيع ذلك بالخرص : لأنه استثنى العرايا منها بالخرص . نهى عن بيع الرطب بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا
قيل : النهي إذا كان عاما لا يجوز أن يصير مخصوصا بالاستثناء إذا كان خاصا .
[ ص: 132 ] وروى الشافعي عن مالك عن عبد الله بن زيد أن زيدا أبا عياش أخبره عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أينقص الرطب إذا يبس " . قيل : نعم . قال : " فلا إذا " بيع التمر بالرطب . سئل عن
وهذا أظهر الأخبار الثلاثة دليلا وتعليلا .
اعترضوا على هذا الحديث من ثلاثة أوجه :
أحدها : طعنهم في راويه ؛ فقالوا لم يرد إلا من جهة زيد بن عياش وهو ضعيف متروك الحديث .
والجواب عن هذا أن زيدا أبا عياش ثقة من أهل المدينة مقبول الحديث ، وهو مولى لبني مخزوم . وقد روى عنه عبد الله بن زيد ، وعمران بن أبي أنس وغيرهما من وجوه أصحاب الحديث ، وقد ذكر هذا الحديث أبو داود في سننه ، وأثنى عليه أبو عيسى الترمذي في حديثه .
الاعتراض الثاني : قدحهم في متنه ، فقالوا : لا يجوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب ينقص إذا صار تمرا حتى يسأل عنه . ومثل هذا لا يخفى على النساء والصبيان .
والجواب : أن هذا السؤال وإن خرج مخرج الاستفهام ، فليس المقصود به الاستفهام ، وإنما قصد به التقرير كما قال تعالى : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] . فلم يكن ذلك استفهاما من الله تعالى وإنما كان تقريرا على موسى .
كذلك هذا السؤال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه التقرير : لينبه به على العلة ، وأن كل ما ينقص إن يبس من سائر الأجناس فلا يجوز بيع بعضه ببعض ، ولو أجاب من غير تقرير لكان الجواب مقصورا على السؤال .
الاعتراض الثالث : أن الحديث محمول على الإرشاد والمشورة ، كأن كان مشتري الرطب سأله مستشيرا في الشراء ، فقال لا لأنه ينقص عليك إذا يبس .
والجواب عنه : أن هذا تأويل يخالف العادة بغير دليل : لأن العرف في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عن الأحكام التي يختص بعلمها دون المتاجر التي قد يشاركونه في العلم بها ، وأن جوابه عنها جواب شرعي ونهيه عنها نهي حكمي ، فلا جائز أن يعدل بالسؤال والجواب عن موضوعهما والعرف القائم فيهما .
[ ص: 133 ] ودليلنا من طريق المعنى : أنه جنس فيه الربا ، فلم يجز بيع رطبه بيابسه متساويين كالحنطة بالعجين والخبز بالدقيق .
فإن قيل : إنما لم يجز بيع الدقيق بالحنطة : لأن طحن الدقيق صنعة يعاوض عليها ، فصار في خبز الدقيق عوض ليس في مقابلته شيء ، وليس جفاف التمر بصنعة يعاوض عليها فجاز بيعه بالرطب . قيل : عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه لو كان هذا صحيحا لجاز على أصلكم التفاضل في بيع الدقيق بالحنطة ، حتى يجيزوا بيع صاع من دقيق بصاعين من حنطة ، ليكون صاع بصاع ، والصاع الفاضل من الحنطة بإزاء ما في الدقيق من الصنعة ، فلما لم تقولوا بهذا دل على أنكم لم تجعلوا للصنعة قيمة .
والجواب الثاني : أن الصنعة لا تقوم في عقود الربا ولا تأثير لدخولها فيه . ألا ترى أنه لو ابتاع حليا مصبوغا بذهب مسبوك جاز إذا تماثلا ، ولا يكون وجود الصنعة في أحدهما دليلا على فساد العقد عليهما ، كذلك الدقيق بالحنطة ليس المنع من العقد عليهما لأجل ما في الدقيق من الصنعة ، وإذا لم يكن لهذا المعنى ، ثبت أنه لما ذكرنا من اختلافهما في حال الادخار .
وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لا يخلو أن يكون جنسا أو جنسين ، وإن تقابلوا بمثله في بيع الدقيق بالحنطة ، ثم يقال هما وإن كانا جنسا واحدا فقد اختلفا في حال الادخار ، فهنا لم يجز بيع أحدهما بالآخر .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن نقصان الرطب إذا صار تمرا كنقصان الحديث إذا صار عتيقا ، ثم لم يمنع حدوث النقصان من بيع الحديث بالعتيق ، كذلك لا يمنع في بيع التمر بالرطب ، من وجهين :
أحدهما : أن الحديث والعتيق قد بلغا حال الادخار ، فجاز بيع أحدهما بالآخر وإن نقصا فيما بعد ، وليس كذلك الرطب : لأنه لم يبلغ حال الادخار .
والثاني : أن نقصان الحديث إذا صار عتيقا يسيرا لا يضبط فكان معفوا عنه كالفضل بين الكيلين والوزنين لما كان يسيرا لا يضبط عفي عنه ، ونقصان الرطب كثير فلم يعف عنه .
ألا ترى أن بيع الطعام الحديث بالطعام العتيق جائز ، وإن كان الحديث أندى والعتيق أيسر : لأن ما بينهما يسيرا فعفي عنه ، ولو كان الطعام مبلولا لم يجز بيعه بالطعام : لأن ما بينهما كثير فلم يعف عنه .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن التماثل معتبر حال العقد ، وإن حدث التفاضل فيما بعد [ ص: 134 ] . قلنا : التماثل معتبر بحال الادخار ، والسمسم مدخر فصح التماثل فيه ، والرطب غير مدخر فلم يصح التماثل فيه . كالسمسم بالسمسم
وأما الجواب عن استدلالهم بالعرايا ، فهو أن العرايا وإن جوزناها لتخصيص الشرع لها فلأننا اعتبرنا المماثلة حال الادخار ، وأنتم أسقطتم اعتبار المماثلة حال الادخار ، ثم المماثلة مأخوذة بالشرع فورد الشرع في مماثلة العرايا بالخرص وفي غيرها بالكيل .
فصل : فإذا تقرر أن بيع التمر بالرطب لا يجوز فكذلك الزبيب بالعنب لا يجوز ، والفواكه كلها لا يجوز بيع رطبها بيابسها .
فإذا اختلف الجنسان جاز . بيع يابس أحدهما برطب الآخر ، ورطب أحدهما برطب الآخر
وأما النوعان من الجنس الواحد كالرطب البرني والرطب المعقلي فحكمهما حكم الجنس الواحد ، لا يجوز بيع تمر أحدهما برطب الآخر .