مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا كان المتبايعان الذهب بالورق بأعيانهما إذا تفرقا قبل القبض كانا في معنى من لم يبايع ، دل على أن كل سلعة باعها فهلكت قبل القبض فمن مال بائعها : لأنه كان عليه تسليمها فلما هلكت لم يكن له أخذ ثمنها " .
قال الماوردي : وهذا صحيح .
إذا لها بطل البيع ، وكانت من ضمان البائع ، واستحق المشتري استرجاع الثمن سواء بذلها البائع فامتنع المشتري من قبضها ، أو طلبها المشتري فامتنع البائع من إقباضها . هذا مذهبنا ، وبه قال تلفت السلعة المبيعة في يد بائعها قبل قبض المشتري أبو حنيفة ، وصاحباه .
وقال مالك : لا يبطل البيع بتلفها ، وهي مضمونة على المشتري بثمنها .
فإن كان المشتري قد طلبها من البائع فامتنع عليه ، ضمنها البائع بالقيمة كالغاصب .
وإن لم يكن المشتري طلبها ، فلا ضمان على البائع كالمودع ، وبه قال أحمد وإسحاق .
وقال النخعي : إن كان البائع قد بذلها للمشتري فامتنع من قبضها لم يبطل البيع بتلفها ، وكانت مضمونة على المشتري بالثمن ، وإن لم يبذلها للمشتري حتى هلكت بطل البيع ، وكانت مضمونة على البائع ، وإلى هذا القول مال محمد بن سيرين .
واستدل من أمضى البيع مع تلفها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . فجعل الخراج ملكا لمن عليه الضمان ، فلما كان الخراج للمشتري ، وإن لم يقبض ، وجب أن تكون مضمونة عليه ، وإن لم يقبض . " الخراج بالضمان "
وقد يتحرر دليل هذا الخبر قياسا فيقال : لأنه مبيع ملك المشتري خراجه ، فوجب أن يلزمه ضمان كالمقبوض .
ولأن ضمان الثمن في مقابلة ملك الثمن ، فلما كان الثمن المبيع في ملك المشتري وإن لم يقبضه ، وجب أن يكون ثمن المبيع مضمونا على المشتري وإن لم يقبضه .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه أن الله تعالى جعل القبض موجبا لتمام العقد ، فقال سبحانه وتعالى : وذروا ما بقي من الربا [ البقرة : 278 ] فجعل المقبوض مما قد استقر عليه الملك ، فلم يوجب استرجاعه ، وما ليس بمقبوض مما لم يستقر عليه ملك فأوجب رده ، ولذلك قلنا : إن عقود المشركين إذا تقابضوها ، ممضاة ، وإن عقدت فاسدة .
فلما كان القبض موجبا لاستقرار الملك ، وعدم القبض مانعا من استقرار الملك . اقتضى أن يكون ما تلف قبل استقرار ملك المشتري عليه لا يلزمه ضمانه ويبطل عقده .
[ ص: 137 ] وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أن ما لم يقبض غير مضمون فمنع من طلب الربح فيه . أنه نهى عن بيع ما لم يقبض ، وربح ما لم يضمن
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه "
فمنع من المطالبة بالثمن لتلف الثمرة قبل القبض ، ونبه على حكم كل مبيع تلف قبل القبض .
والدليل من طريق المعنى تعليل الشافعي وتحريره .
أنه قبض مستحق بعقد فوجب أن يكون فواته مبطلا للعقد كالصرف .
ولأنه مبيع تلف قبل القبض ، فوجب أن يكون مسقطا للضمان مبطلا للعقد ، كالقفيز المبيع من الصبرة إذا تلف جميعها قبل القبض .
فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : فمن وجهين : " الخراج بالضمان "
أحدهما : أنه لا دليل فيه : لأنه جعل الخراج لمن عليه الضمان ، وهم عكسوا الأمر فجعلوا الضمان على من له الخراج .
والثاني : أنه يرجع عليهم : لأنهم يقولون إنه مضمون على البائع بالقيمة ، والخراج للمشتري . فلما جاز أن يكون مضمونا على البائع بالقيمة وإن كان الخراج للمشتري فلم لا يجوز أن يكون مضمونا على البائع بالثمن ، ويكون الخراج للمشتري .
وأما قياسهم على المقبوض ، فالمعنى في المقبوض استقرار ملكه عليه بالقبض ، وليس كذلك غير المقبوض .
وأما الاستدلال بجمعهم بين الثمن والمثمن ، فمنتقض بالقفيز من الصبرة ، ثم يقال : هما سواء في أن ملك كل واحد من البائع والمشتري على الثمن والمثمن غير مستقر قبل القبض . وستأتي هذه المسألة من بعد - إن شاء الله تعالى - . والله أعلم .