مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولم أجد أحدا من أهل العلم يأخذ عشر الحبوب في أكمامها ، ولا يجيز ، فإن قال قائل : فأنا أجيز بيع الحنطة في سنبلها ، لزمه أن يجيزه في تبنها أو فضة في تراب بالتراب " . بيع الحنطة بالحنطة في سنبلها
قال الماوردي : أما فلا يجوز مطلقا ، ولا بشرط التبقية : لما يخاف عليه من الجائح ، ويجوز بشرط القطع كالثمر قبل بدو الصلاح . بيع الزرع بقلا أو فصيلا قبل اشتداده ويبسه
فأما إذا اشتد واستحصد فإن كان الزرع مما يبرز الحب منه بغير كمام يستره كالشعير ، جاز بيعه في سنبله قبل دياسته وتصفيته لظهوره ومشاهدته ، وإن كان الحب في كمام يستره كالحنطة ، فقد حكي عن الشافعي في القديم جواز بيعه ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، ووافقه في موضع من المبسوط على صحة الحديث .
ونص في الجديد وسائر كتبه على بطلان بيعه في سنبله .
ودليل من قال بجواز بيعه : رواية حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس وعن بيع الحب حتى يشتد " نهى عن بيع العنب حتى يسود . أن النبي صلى الله عليه وسلم
فجعل غاية النهي أن يشتد فاقتضى جواز بيعه من بعد اشتداده كالعنب إذا اسود ، وبرواية أيوب عن نافع عن ابن عمر . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نهى عن بيع النخل حتى يزهى وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة "
وفي الحديث دليل كالأول وزيادة تعليل : ولأن بقايا الحنطة في سنبلها إبقاء لها وأمنع [ ص: 200 ] من فسادها ، ولأجل ذلك قال الله تعالى في قصة يوسف : فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون وإذا كان بقاء الحنطة في سنبلها أمنع من فسادها ، جرى مجرى الجوز واللوز في قشره الذي قد اتفقوا على جواز بيعه إجماعا ، فكذا الحنطة في سنبلها حجاجا . وتحرير ذلك أنه مجهول بما يصلحه من أصله فجاز بيعه فيه ، كالجوز واللوز في قشره .
ودليل قوله في الجديد ، أن بيعه باطل ، ما روي وبيع الحنطة في سنبلها غرر : لأنه تردد بين الجودة والرداءة والصحة والفساد . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الغرر
وروي " نهى عن بيع الطعام حتى يفرك يعني بفتح الراء ومعنى الفرك التصفية . عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه
وروي ولا يمكن أن يجري فيه الصاع إلا بعد التصفية . عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان "
ولأن المقصود بالعقد مستور بما لا يدخر غالبا فيه فوجب أن يكون بيعه باطلا كتراب الفضة والشاة المذبوحة .
ولأن الحنطة بعد الدرس في تبنها أقرب إلى تصفيتها من أن تكون في سنبلها . فلما لم يجز بيعها في أقرب الحالين إلى التصفية فأولى أن لا يجوز في أبعدهما من التصفية .
ولأنه لما لم يجز أخذ القشر منها إذا كانت في سنبلها للجهل بها والقشر مساواة ، فالبيع أولى أن لا يجوز ، لأن المعاوضة أفسد بالجهالة من المساواة .
فأما الجواب عن نهيه عن بيع الحب حتى يشتد مع تفرد حماد بن سلمة بروايته ، فهو أن هذه غاية قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بعدها غاية أخرى ، وهي قوله " يفرك " ، والحكم إذا علق بغايتين لم يتعلق بوجود إحداهما حتى يوجدا معا كما قال تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 23 ] .
فكان النكاح غاية التحريم فاقتضى أن يحل بعده ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صارت هذه غاية ثانية فلا يحل إلا بعد وجودهما ، وصار كأنه قال : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته . " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "
فإن قيل : فإذا لم يحل بيعه بعد أن يشتد إلى أن يفرك فلم جعل غاية النهي الأول حتى يشتد ؟
[ ص: 201 ] قيل : إن النهي في كل واحد من الغايتين لمعنى غير الغاية الأخرى ، فنهيه عن بيعه حتى يشتد لأن ينجو من العاهة ، وعن بيعه حتى يفرك لما فيه من الغرر بفقد الرؤية ، فصار كقوله : ألا لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض ، وهي بعد الحمل ، ووجود الحيض لا تحل حتى تغتسل بعد مضي النفاس والحيض إلا أن النهي الأول لحفظ النسب ، والنهي بعده لأجل الأذى ، وهذا أصل فلهذا بسطنا الكلام فيه ، وبمثله يكون الجواب عن حديث ابن عمر مع تفرد أيوب بروايته .
أما الاستدلال بأن تركه السنبل إبقاء كترك الجوز واللوز في قشره ، فجمع لا يسلم : لوجود الفرق بترك الجوز واللوز في قشره ، وتصفية البر من سنبله ، فلما اختلف العرف فيها اختلف حكم ما منع من رؤيتهما .