مسألة : ( قال  المزني      ) ولو  لم يختلفا ، وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبض   فالذي أحب  الشافعي   من أقاويل وصفها أن يؤمر البائع بدفع السلعة ويجبر المشتري على دفع      [ ص: 307 ] الثمن من ساعته ، فإن غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة ، فإذا دفع أطلق عنه الوقف وإن لم يكن له مال فهذا مفلس والبائع أحق بسلعته ، ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم " .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال . اعلم أن لهذه المسألة مقدمة لا بد من ذكرها لترتب جواب المسألة عليها وهي : أن  لكل واحد من المتبايعين حبس ما بيده عند تعذر قبض ما في مقابلته ،   فللمشتري حبس الثمن خوفا من تعذر قبض المثمن : لأنه عقد معاوضة يقتضي حفظ العوض ، فلو تأخر تسليم المبيع المثمن لعذر أو غير عذر لم يلزم المشتري تعجيل الثمن ، وهكذا أيضا للبائع حبس المبيع في يده خوفا من تعذر قبض ثمنه ، فلو أعطاه المشتري بالثمن رهنا أو ضمينا لم يلزمه تسليم المبيع : لأن الثمن باق ، وإنما هذا وثيقة فيه ، وقد كان موثقا في ذمة مشتريه . لكن لو أحال بالثمن حوالة قبلها أو أعطاه به عوضا رضيه لزمه تسليم المبيع لاستيفاء ثمنه ، وهكذا لو أبرأه من الثمن لم يكن له حبس المبيع : لأنه لم يبق له حق بحبس المبيع لأجله ، فلو  أعطاه بعض ثمنه وسأله أن يدفع إليه بقدره من المبيع ،   ففيه قولان حكاهما  ابن سريج      :  
أحدهما : عليه أن يدفع إلى المشتري من المبيع بقدر ما قبض من ثمنه ، ويحبس منه بقدر ما بقي ، ولا يجوز أن يحبس جميعه لتقسط الثمن عليه .  
والقول الثاني : لا يلزمه ذلك وله حبس الجميع على باقي الثمن ، ولو بقي منه درهم كالرهن . ولو  اشترى منه ماشية فنتجت في يد بائعها قبل القبض أو نخلا فأثمرت   كان للبائع أن يحبس أصل الماشية والنخل على الثمن دون النتاج والثمرة : لأنهما لم يتناولهما العقد ، وإنما حدثا على ملك المشتري من بعد .  
ولو  كان المبيع دارا فأجرها المشتري قبل دفع الثمن   كان للبائع أن يمنع المستأجر منها كما كان له منع المشتري : لأن تمكين المستأجر منها تسليم إلى المشتري : وذلك لا يلزم قبل قبض الثمن .  
فصل : فإذا تقررت هذه الجملة فصورة مسألة الكتاب أن يبذل كل واحد من المتبايعين ما بيده لكن  يختلفان في التقديم ، فيقول البائع : لا أسلم المبيع إلا بعد قبض ثمنه ، ويقول المشتري : لا أدفع الثمن إلا بعد قبض المبيع ،   فقد حكى  الشافعي   أربعة مذاهب للناس في ذلك ، واختار أحدها فخرجها أصحابنا أربعة أقاويل له :  
أحدها : أن الحاكم يجبرهما على إحضار ذلك إليه ، فإذا دفع البائع المبيع إليه ، وأحضر المشتري الثمن إليه ، دفع الثمن إلى البائع والمبيع إلى المشتري ، ولا يبالي بأيهما بدأ إذا كان حاضرا . وحكي هذا القول عن بعض المشرقيين ، ووجه هذا القول أن الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق وقطع التخاصم فإذا أمكنه ذلك لم يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر      [ ص: 308 ] على أخذها منهم . فعلى هذا إذا أحضر ذلك إلى الحاكم فتلف في مجلسه كان من ضمان صاحبه ، فإن كان التالف هو المبيع فيبطل البيع لتلفه قبل القبض ، وإن كان الثمن هو التالف لم يبطل البيع وعلى المشتري أن يأتي ببدله إلا أن يكون الثمن معينا فيبطل البيع أيضا بتلفه .  
والقول الثاني : أن الحاكم يدعهما جميعا ولا يجبر واحدا منهما : لأن لكل واحد منهما حقا في حبس ما بيده ، وليس أحدهما أحق من صاحبه ، لكن يمنعهما من التخاصم فأيهما تطوع يدفع ما بيده ، وجب على الحاكم حينئذ أن يجبر الآخر على تسليم ما في مقابلته ، وهذا القول حكاه عن بعض المشرقيين أيضا .  
والقول الثالث : أن الحاكم ينصب لهما أمينا عدلا ، ويأمر كل واحد منهما بتسليم ما بيده إليه حتى إذا صار الجميع معه سلم المبيع إلى المشتري ، والثمن إلى البائع ، وحكي هذا القول عن  سعيد بن سالم القداح ،   وقال  أبو إسحاق المروزي      : يجعل ، وهذا القول الأول واحدا ، وتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل ، وامتنع سائر أصحابنا من جعلهما قولا واحدا ، وأن كل واحد منهما مخالف لصاحبه : لأن الدفع والتسليم في القول الأول إلى الحاكم وكان بحكمه وهاهنا الحكم منه في نصب الأمين والأمر بالتسليم فاختلفا .  
والقول الرابع : وهو الذي اختاره لنفسه أن الحاكم يجبر البائع على تسليم المبيع إلى المشتري أولا ، فإذا سلمه إليه أجبر المشتري على تسليم الثمن إليه ، ووجه هذا القول أن استقرار العقد معتبر بوجود القبض فوجب إجبار البائع عليه ليستقر العقد به ، ولأن البائع يقدر على التصرف في الثمن قبل قبضه بالحوالة ويأخذ بدله ، والمشتري لا يقدر على ذلك في المبيع إلا بقبضه ، فأجبر البائع عليه ليتساويا فيه ، ولأن المبيع معين والثمن في الذمة غير معين وما تعلق بالأعيان أحق بالتقديم مما ثبت في الذمم كالرهن في أموال المفلس ، فعلى هذا إذا سلم البائع المبيع إلى المشتري لم يخل حال المشتري من أحد أمرين :  
إما أن يكون موسرا بالثمن ، أو معسرا ، فإن كان معسرا بالثمن فهذا مفلس والبائع بالخيار بين أن يرجع بعين ماله وبين أن يصبر به في ذمة المشتري مع إعساره ، وإن كان موسرا بالثمن فلا يخلو حال ماله من أحد أمرين :  
إما أن يكون حاضرا أو غائبا ، فإن كان ماله حاضرا أجبر على دفع الثمن إلى البائع ، ويكون ممنوعا من التصرف في المبيع وسائر ماله حتى يدفع الثمن إلى البائع ، ثم يطلق تصرفه فيه حينئذ ، وإنما استحق الحجر في المبيع وجميع ماله : لأنه ربما استهلكه بتصرفه ، ولا يصل البائع إلى المبيع ولا إلى ثمنه . وإن كان ماله غائبا فله ثلاثة أحوال :  
أحدها : أن يكون على مسافة أقل من يوم وليلة ، فهذا في حكم الحاضر وينتظر به حضور ماله بعد الحجر عليه في المبيع وسائر ماله ، وإذا أحضر الثمن فك حجره وأطلق تصرفه .  
 [ ص: 309 ] الثاني : أن يكون على مسافة ثلاثة أيام فصاعدا فلا يلزم انتظار ماله لبعده عنه وأنه في حكم المعسر .  
والثالث : أن يكون على مسافة أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين :  
أحدهما : ينتظر به حضور ماله كما لو كان على مسافة أقل من يوم وليلة ويحجر عليه في المبيع في ماله حتى يحضر الثمن .  
والوجه الثاني : لا ينتظر به لبعد المسافة وأنهما في حكم ما زاد على الثلاث . فعلى هذا ما الذي يستحقه البائع إذا لم ينتظر ؟ فيه وجهان :  
أحدهما : يجعل كالمفلس ويخير البائع بين أن يرجع بعين ماله . وبين أن يصبر بالثمن في ذمة المشتري إلى حين وجوده ، فإن صبر به أطلق تصرف المشتري في المبيع وغيره .  
والوجه الثاني : أن حكم المفلس منفي عنه لوجود المال وإن بعد منه ، ولكن تباع السلعة المبيعة ليصل البائع إلى حقه منها ، فإن بيعت بقدر ما للبائع من الثمن دفع إليه ذلك وقد استوفى حقه . وإن بيعت بأكثر رد الفاضل على المشتري ، وإن بيعت بأقل كان الباقي دينا للبائع في ذمة المشتري .  
فصل : إذا  كان المبيع عرضا بعرض ، وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبضه   ففيه أربعة أقاويل :  
أحدها : أن الحاكم يأمرهما بإحضار ذلك إلى مجلسه .  
والثاني : أنه يدعهما حتى يتطوع أحدهما فيجبر الآخر على تسليم ما في مقابلته .  
والثالث : ينصب الحاكم أمينا يدفعان ذلك إليه حتى يسلم إلى كل واحد منهما حقه .  
فأما القول الرابع : وهو أنه يجبر البائع أولا ثم المشتري فلا يجيء في هذا الموضع : لأنه ليس يتعين أحدهما بأنه بائع والآخر بأنه مشتر . ولو كان المبيع عرضا بعرض وهما أو أحدهما مما لا ينقل فليس إلا قولين :  
أحدهما : أن الحاكم يدعهما حتى يتطوع أحدهما ثم يجبر الآخر .  
والثاني : أنه ينصب لهما أمينا . ولا يجيء القولان الآخران : لأن إحضار ذلك إلى مجلس الحكم غير ممكن فبطل هذا القول . وليس يتعين أحدهما بأنه بائع فيجبر فيبطل أيضا هذا القول ، والله أعلم .  
فصل : فإذا  امتنعت الزوجة من تسليم نفسها إلا بعد قبض صداقها ، وامتنع الزوج من دفع الصداق إلا بعد تسليم نفسها   فلا يحكم فيه بجبر الزوجة على تسليم نفسها كما يجبر البائع على تسليم سلعته : لأن البائع إذا سلم سلعته أمكن أن يحجر على المشتري فيها      [ ص: 310 ] والزوجة إذا سلمت نفسها لا يمكن منع الزوج من الاستمتاع بها ، فيضر تسليم نفسها ، وليس كذلك البائع ، وتجيء باقي الأقاويل ، والله أعلم .  
				
						
						
