مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو كان باعها فسد البيع حتى ترد إلى الأول فإن ماتت فعليه قيمتها كان أكثر من الثمن الفاسد أو أقل " .
قال الماوردي : إذا لم يجز أن يبيعها : لأنه لم يملكها ، فإن باعها فالبيع باطل ، وتنزع من يد المشتري الثاني وترد إلى بائعها الأول ، ويرجع المشتري الأول على البائع بالثمن الذي دفعه إليه ، ويرجع المشتري الثاني على المشتري الأول بالثمن الذي دفعه إليه فلو باعه الثاني على ثالث ، والثالث على رابع ، فعقود جميعهم باطلة ، وترد على الأول ويتراجعون بالأثمان . فإذا ثبت هذا وكان المشتري الأول قد باعها على ثان فلا يخلو حالها من ثلاثة أحوال : قبض الجارية عن بيع فاسد ،
[ ص: 319 ] أحدها : أن تكون بحالها أو أزيد .
والثاني : أن تكون قد تلفت .
والثالث : أن تكون قد نقصت . فإن كانت بحالها أو أزيد قيمة وجب ردها على الأول ، ويتراجعان الثمن على ما مضى ، وإن تلفت فهي على ظاهر مذهب الشافعي مضمونة ضمان غصب أكثر ما كانت قيمته من حين القبض إلى حين التلف : لأن ما حدث من نقص فهو مضمون كضمان الأصل ، وما حدث من زيادة فهو تابع للأصل .
وقال بعض أصحابنا : هو مضمون بالقيمة وقت التلف ولا اعتبار بما قبله بخلاف الغصب : لأن في الغصب عدوانا يتغلظ به الضمان ، والأول لما ذكرناه أصح . وإذا كان كذلك فسواء كانت القيمة أقل من الثمن المذكور في العقد أو أكثر .
وحكي عن أبي حنيفة أن عليه أقل الأمرين من القيمة والثمن : لأن القيمة إذا زادت على الثمن فرضي البائع بالثمن سقط حقه من الزيادة عليه . وهذا خطأ : لأن العقد إذا فسد بطل اعتبار ما تضمنه من الثمن ؛ لأنه منوط بعقد سقط حكمه ، ولو جاز أن يعتبر الثمن إذا نقص عن القيمة نظرا للمشتري لجاز أن يعتبر الثمن إذا زاد على القيمة نظرا للبائع . فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال قيمتها من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن تستوي قيمتها في يد المشتري الأول والمشتري الثاني ، فيقبضها الأول وقيمتها ألف درهم ، ويقبضها الثاني من الأول وقيمتها ألف درهم ، ثم تموت في يده ، فيكون كل واحد منهما ضامنا لجميع الألف بحق يده ، والمالك بالخيار في أن يرجع على الأول أو على الثاني ، فإن رجع بها على الأول رجع الأول بها على الثاني ، وإن رجع بها على الثاني ، لم يرجع الثاني بها على الأول .
والقسم الثاني : أن تكون قيمتها في يد الأول أكثر من قيمتها في يد الثاني ، كأن قبضها الأول وقيمتها ألفان فنقصت في يده حتى صارت قيمتها ألفا ، ثم قبضها الثاني وماتت في يده فيكون الأول ضامنا لألفين ، والثاني ضامنا لألف واحد ، والمالك بالخيار بين أن يرجع على الأول ، أو على الثاني ، فإن رجع على الأول رجع عليه بألفي درهم ، ويرجع الأول على الثاني بألف منها ، وإن رجع على الثاني رجع عليه بألف واحد وهو قدر قيمتها حين قبضها : لأن ما نقص قبل قبضه لا يضمنه ، ثم يرجع على الأول بالألف الثاني ، وهو قدر القبض في يده ، وليس للأول أن يرجع بهذا الألف على الثاني : لأنه لم يضمنها ، ولا للثاني أن يرجع بالألف التي غرمها على الأول : لأن الثاني قد استهلكها .
والقسم الثالث : أن تكون قيمتها في يد الأول أقل ، وفي يد الثاني أكثر ، كأن قبضها الأول وقيمتها ألف ، وسلمها إلى الثاني فزادت قيمتها في يده حتى صارت ألفين ، ثم ماتت فيكون كل واحد من الأول والثاني ضامنا لألفين : أما الثاني فلوجود هذه القيمة مضمونة في يده ، وأما الأول فلأنه أصل للثاني وضامن لما خرج عن يده إلى غير مالكه ، ويكون المالك بالخيار بين مطالبة [ ص: 320 ] الأول أو الثاني ، فإن طالب الأول رجع عليه بألفين ، ورجع بها الأول على الثاني ، وإن طالب الثاني رجع عليه بألفين ، ولم يرجع بها الثاني على الأول ، فهذا الحكم فيها إن تلفت .
فأما إن لم تتلف ولكن نقصت قيمتها ، كأن كانت قيمتها ألفين فنقصت حتى صارت ألفا ، ثم ردت فلا يخلو حال هذا النقص من أن يكون حادثا في يد الأول أو الثاني ، فإن حدث النقص في يد الأول فالألف مضمونة على الأول ، وللمالك أن يرجع بها على الأول دون الثاني ، وليس للأول أن يرجع بها على الثاني ، وإن حدث النقص في يد الثاني فكل واحد منهما ضامن لهذا الألف ، والمالك بالخيار في الرجوع بها على أيهما شاء ، فإن رجع بها على الأول رجع الأول بها على الثاني ، وإن رجع بها على الثاني لم يرجع الثاني بها على الأول لما قدمنا من التعليل . ثم الأجرة مستحقة للمدة الماضية فما مضى من المدة في يد الأول لم يجز للمالك أن يرجع به على الثاني ، وما مضى من المدة في يد الثاني كان للمالك أن يرجع به على من شاء من الأول والثاني ، فإن رجع به على الأول رجع الأول به على الثاني ، وإن رجع به على الثاني لم يرجع الثاني به على الأول .