فصل : فإذا تقرر ما وصفنا  فالشروط المعتبرة في صحة السلم   تعتبر من وجهين :  
أحدهما : ما كانت معتبرة في المثمن ، وسنذكرها من بعد إذا تقدم شرحها .  
والثاني : ما كانت معتبرة في الثمن ، وهي ثلاثة شروط متفق على بعضها ومختلف في بعضها .  
أحدها :  تسليم جميع الثمن قبل الافتراق ،   فلو أخل به بطل السلم . والثاني : إلى آخر الباب ، وليس يعرف خلاف أنه لا يجوز للإمام ولا لغيره أن يسعر على الناس غير  الأقوات ،   فلا يجوز أيضا أن يسعرها مع السعة والرخص . وأما عند الغلاء وزيادة الأسعار ، فقد قال  مالك      : إن للإمام أن يسعرها عليهم بسعر ، ولا يجوز لهم الزيادة عليه ، فإن خالفوه أدبهم إلا أن يمتنعوا من بيع أمتعتهم ، فلا يجبرهم على بيعها ، وذهب  الشافعي ،   وأبو حنيفة ،   وجمهور الفقهاء إلى أن الإمام وغيره من المسلمين سواء في أن لا يجوز لهم تسعير الأقوات على أربابها ، وهم مسلطون على بيع أموالهم ما أحبوا .  
واستدل  من أجاز التسعير   برواية  سعيد بن المسيب ،   عن  معمر بن أبي معمر   أن      [ ص: 409 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :    " الجالب مرزوق ، والمحتكر ممحوق "  فلما  زجر عن الاحتكار   كان للإمام الزجر عليه والنهي عنه .  
وبما روي  عن  عمر   رضي الله عنه أنه مر  بحاطب   إلى أن قال له : إما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت     . وبما روي  عن  علي بن أبي طالب   عليه السلام أنه سعر على قوم طعاما فخالفوه فحرقه عليهم من الغد .  
قال : وقد قيل في  تأويل قوله تعالى :  ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم       [ الحج : 25 ] لأن الإلحاد فيه هو احتكار الطعام فيه ،  وقال  عمر   رضي الله عنه : لا تحتكروا الطعام  بمكة ،   فإن ذلك إلحاد     . قال : ولأن الإمام مندوب إلى فعل المصالح ، فإذا رأى في التسعير مصلحة عند تزايد الأسعار ، جاز أن يفعله .  
والدليل على  تحريم الأسعار   قوله تعالى :  الله لطيف بعباده يرزق من يشاء      [ الشورى : 19 ] وفي التسعير عليه إيقاع حجر عليه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه     " .  
وروى  العلاء بن عبد الرحمن ،   عن أبيه ، عن  أبي هريرة   رضي الله عنه "  أن رجلا جاء فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : بل أدعو . ثم جاءه فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : " بل الله يخفض ويرفع ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة     " . وروى  حماد بن سلمة ،   عن  ثابت ،   عن  أنس   قال  قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله هو المسعر القابض ، الباسط ، الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ، ولا مال     " .  
ولأن الناس مسلطون على أملاكهم ، والتسعير عليهم إيقاع حجر في أموالهم ، وذلك غير جائز فيمن جاز أمره ، ونفذ تصرفه ، ولأن الإمام مندوب إلى النظر في مصالح الكافة ، وليس      [ ص: 410 ] نظره في مصلحة المشتري بأولى من نظره في مصلحة البائع لوفور الثمن ، وإذا تقابل الأمران وجب تفريق الفريقين في الاجتهاد لأنفسهم ، فيجتهد المشتري في الاسترخاص ، ويجتهد البائع في وفور الربح .  
فأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم    " الجالب مرزوق والمحتكر ممحوق "  فهذا يكون في الاحتكار ، والتسعير غير ذلك : لأن المسعر هو الذي يأتي إلى الذي يبيع متاعه فيسعره عليه ، ويقدر له الثمن فيه ، لأن لا يزيد عليه ، والمحتكر الممتنع من بيعه على أن طريق هذا الحديث الإرشاد ، فقد روي  عن  سعيد بن المسيب ،   وهو راوي الحديث أنه كان يحتكر الزيت ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان  معمر   يحتكر .  
وأما استدلالهم بحديث  عمر   رضي الله عنه فقد رواه  الشافعي   تاما ، وهو  أن  عمر   رضي الله عنه حاسب نفسه ، ثم عاد إلى  حاطب ،   فقال : إن الذي قلت ليس بعزيمة مني ، ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد     . الحديث . فكان هذا من أدل دليل على أن التسعير لا يجوز . وأما الخبر المروي عن  علي بن أبي طالب   كرم الله وجهه فليس بصحيح لما فيه من تحريق أموالهم ، ولا يجوز للإمام تحريقها عليهم .  
وإنما المروي عنه أنه مر بسوق التمارين  بالبصرة ،   فأنكر عليهم بعض باعاتهم ، وأما قولهم إن فيه مصلحة الناس في رخص أسعارهم عليه ، فهذا غلط بل فيه فساد ، وغلاء الأسعار ، لأن الجالب إذا سمع بالتسعير امتنع من الجلب فزاد السعر ، وقل الجلب والقوت ، وإذا سمع بالغلاء وتمكين الناس من بيع أموالهم كيف احتووا جلب ذلك طلبا للفضل فيه ، وإذا حصل الجلب اتسعت الأقوات ورخصت الأسعار .  
فصل : فإذا ثبت أن الإمام لا يجوز له التسعير في الأقوات على الناس ، فخالف وسعرها عليهم فباع الناس أمتعتهم بما سعرها عليهم فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يكرههم على بيعها ، ولا يمكنهم من تركها ، فهذا بيع باطل ، وعلى مشتري ذلك بالإكراه أن يرده على ما باعه ، ويسترجع ما دفعه من ثمنه ، فإن البيع مع الإكراه لا يصح ، وقال  أبو حنيفة      :  بيع المكره بالسلطان   باطل ، وإن أكرهه غير السلطان ، فبيعه جائز : لأن الإكراه من غير السلطان قادر ، ودفعه ممكن . وهذا غير صحيح بل بيع المكره باطل لرواية  صالح ،   وعامر ،   عن شيخ من  تميم ،   قال : خطبنا  علي بن أبي طالب   كرم الله وجهه ، وقال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ، ولم يؤمر بذلك . قال الله تعالى :  ولا تنسوا الفضل بينكم      [ البقرة : 237 ] وتبايع المضطرون .  
وقد  نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، والمكره مضطر .  
 [ ص: 411 ] وقد قال صلى الله عليه وسلم    " رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه "  ، ولأنه عقد مكره ، فوجب أن يكون باطلا كالمكره بالسلطان ، ولأنه عقد لو أكرهه السلطان عليه لم يصح ، فوجب إذا أكرهه غير السلطان عليه أن لا يصح كالنكاح : ولأن ما أكرهه السلطان عليه أولى بالإمضاء مما أكرهه عليه غير السلطان ، لما للسلطان من حق الطاعة ، فلما أبطل ما أكرهه السلطان عليه كان بطلان ما أكرهه غير السلطان عليه أولى .  
فأما الضرب الثاني : وهو أن يسعر السلطان فيبيع الناس أمتعتهم مختارين من غير إكراه ، لكنهم كارهين للسعر ، فالبيع جائز غير أننا نكره الابتياع منهم ، إلا إذا علم طيب نفوسهم به ، وإن كان البيع إذا لم يقترن به الإكراه جائزا بكل حال .  
فصل : وأما  الاحتكار والتربص بالأمتعة ،   فلا يكره في غير الأقوات ، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها ، مع سعة الأقوات ورخص الأسعار : لأن احتكارها عند الحاجة إليها .  
وأما احتكارها مع الضيق ، والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرم ، والنهي الذي قدمنا ذكره من تأويل الآية ، ونص الخبر محمول على هذا الحال ، ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبا لربحها لم يكن احتكارا ، والله أعلم .  
				
						
						
