مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو كان لابنه الطفل عليه حق جاز أن يرتهن له شيئا من نفسه لأنه يقوم مقامه في القبض له " .
قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا فهو يستحق الولاية عليه بنفسه لفضل حنوه وكثرة نفقته ، وانتفاء التهمة عنه في تصرفه ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف حاله مع ولده فقال : كان ولي الطفل أبا أو جدا ، الولد مجبنة محزنة مجهلة فوصفه بهذه الصفة لما جبل عليه من محبته .
[ ص: 29 ] فإذا كان الولي أبا أو جدا ، جاز أن يفعل في مال ابنه مع نفسه ما يجوز أن يفعله في مال ابنه مع غيره من الأجانب .
فيجوز أن يبيع من مال ابنه على نفسه ما يجوز أن يبيعه من مال ابنه على غيره من الأجانب ، ويجوز أن يشتري له من نفسه ما يجوز أن يشتريه لابنه من الأجانب ، ويجوز أن يقرض لابنه ويقترض منه ما يجوز أن يقترضه ويقرضه من الأجانب ، ويجوز أن يرتهن من ابنه أو يرهن منه ما يجوز أن يرهنه ويرتهنه من الأجانب ، ولو حصل لابنه عليه دين بلا رهن ، جاز أن يأخذ له من نفسه رهنا به كما يجوز أن يأخذ له من الأجنبي لو كان الدين عليه رهنا به .
ولو حصل له على ابنه دين بلا رهن لم يجز أن يأخذ من ماله رهنا به كما لو كان الدين لأجنبي لم يجز أن يعطيه رهنا به .
فيستوي تصرفه في مال ابنه مع نفسه كما يستوي تصرفه في مال ابنه مع الأجانب ، وإنما كان كذلك لما ذكرنا من اختصاصه بفضل الحنو وكثرة الشفقة وانتفاء التهمة .
وأما الأم : فقد اختلف أصحابنا : فقال بعضهم : تستحق الولاية بنفسها عند فقد الأب كالأب لمشاركته في حنوه وشفقته ، فعلى هذا تكون أم الأم التي هي الجدة تستحق الولاية بنفسها عند عدم الأم كالأم . هل تستحق الولاية بنفسها كالأب ؟
وأما فهل يكون له على هذا المذهب ولاية بنفسه أم لا ؟ على وجهين : أبو الأم
أحدهما : يلي بنفسه لأنه لما استحقت الأم الولاية بنفسها وكان لابنها ولاية عليها وجب أن يكون فيما استحقته من الولاية مشاركا لها .
والوجه الثاني : لا ولاية له وإن وليت بنته كما لا حضانة له ، ولأنه لما ضعف من الإرث ، كان عن الولاية أضعف .
وقال سائر أصحابنا : لا ولاية لأم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنها وإن شاركت الأب في حنوه وشفقته ، فللأب اختصاص بفضل النظر ، وصحة التدبير ، وجودة الرأي ، وتنمية المال الذي هو مقصود الولاية ، فباين به الأم لضعف النساء عن هذه الرتبة ، وقلة وجود هذا المعنى فيهن غالبا ، فلذلك لم يكن للأم ولاية بنفسها ولا لأحد أدلى بها .
فصل : فإذا أراد الأب أن يبتاع لنفسه من مال ابنه ، أو يرتهن منه ، أو : أراد أن يبيع من مال نفسه على ابنه أو يرهن له من نفسه ، ففي كيفية العقد وجهان
أحدهما : أنه يعقد ذلك لفظا ببذل وقبول فيقول إن كان هو المشتري من ابنه : قد بعت [ ص: 30 ] كذا وكذا من مال ابني على نفسي بكذا وكذا درهما ، وقبلت ذلك لنفسي .
وإن كان هو البائع على ابنه قال : قد بعت داري التي بموضع كذا على ابني بألف درهم ، وقبلت ذلك لابني فيصح العقد ويتم .
ثم إن كان بيعا فله خيار المجلس ، ما لم يفارق موضعه الذي عقد فيه ، فإذا فارقه قام مقام افتراق المتعاقدين بأبدانهما في انبرام البيع .
والوجه الثاني : أنه يعقد بنيته دون لفظه ، فينوي أنه قد باع على ابنه كذا وكذا وينوي أنه قبل ذلك عن ابنه من غير أن يتلفظ بذلك وبقوله لأن الإنسان لا يكون مخاطبا لنفسه ، فوجب أن يقتصر في ذلك على نيته .
والوجه الأول عليه أكثر أصحابنا ولا يكون مخاطبا لنفسه ، لأنا نحصل أحد اللفظين عن نفسه ، والآخر عن ابنه ، فيصير كأنه مخاطب لابنه .