مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ويفتي الملتقط إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه ، ولا أجبره عليه إلا ببينة : لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها ، وليعلم إذا وضعها في ماله أنها لقطة ، وقد يكون ليستدل على صدق المعرف ، أرأيت لو وصفها عشرة يعطونها ، ونحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه فيمكن أن يكون صادقا " . اعرف عفاصها ووكاءها
قال الماوردي : وصورتها في ، فإن أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها له ، وإن لم يقم بينة لكن وصفها ، فإن أخطأ في وصفها لم يجز دفعها إليه ، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد والوزن ، فإن لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه ، وإن وقع في نفسه أنه صادق أفتيناه بدفعها إليه جوازا لا واجبا ، فإن امتنع عن الدفع لم يجبر عليه ، وبه قال رجل ادعى لقطة في يد واجدها أبو حنيفة ، وقال مالك وأحمد : يجبر على دفعها إليه بالصفة : استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ، فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق . اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء طالبها - أو قال باغيها - فادفعها إليه
وروى سويد بن غفلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وهذا نص ، قالوا : ولأن كل أمارة غلب بها في الشرع صدق المدعي جاز أن يوجب قبول قوله كالقسامة ، قالوا : ولأن البينات في الأصول مختلفة ، وما تعذر منها في الغائب مخفف ، كالنساء المنفردات في الولادة ، وإقامة البينة على اللقطة متعذرة ، لا سيما على الدنانير والدراهم التي لا تضبط أعيانها ، فجاز أن تكون الصفة التي هي غاية الأحوال الممكنة أن تكون بينة فيها ، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه ، فلم يجعل الدعوى حجة ولا جعل مجرد القول حجة بينة ، ولأن صفة المطلوب لا تكون بينة للطالب كالمسروق والمغصوب ، ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى ، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب . لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه
قال الشافعي - رحمه الله - محتجا عليهم : أرأيت لو وصفها عشرة ، أيعطونها ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدا بعينه ؟ فرد عليه ابن داود فقال : كما لو نقسمها بينهم ، وإن كان صدق جميعهم مستحيلا ، كذلك إذا وصفوها كلهم . والجواب عن هذا من وجهين : ادعاها عشرة وأقام كل واحد عليها بينة
[ ص: 24 ] أحدهما : أن كذب المدعي أسقط للدعوى من كذب الشهود ، ألا ترى أن إكذاب المدعي لنفسه مبطلا للدعوى ، وإكذاب الشهود لأنفسهم غير مبطل للدعوى .
والثاني : أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعي وأقوى ما يحكم به الحاكم ، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم تدعه من الصفة .
وأما الجواب عن قولهم : فهو أن ذلك لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه ، ولكن لمعان هي أخص بمقصود اللفظ ، منها أنه نبه بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته وندارته على حفظ ما فيه ووجوب رده مع كثرته ، ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ، ومنها جواز دفعها بالصفة وإن لم يجب ، وعلى هذا حمل حديث اعرف عفاصها ووكاءها سويد بن غفلة الذي جعلوه نصا ، وأما استدلالهم به فنحن ما جعلنا الأمارة على الصدق حجة في قبول الدعوى ، وإنما الأيمان بعدها حجة ، وهم لا يقولون بذلك في اللقطة بعد الصفة فدل على اختلافها .
وأما استدلالهم بأن البينات في الأصول مختلفة فصحيح ، وليس من جميعها بينة تكون بمجرد الصفة ولا يكون تعذر البينة موجبا أن تكون الصفة بينة ، ألا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينة عليه ولا يكون صفة ما بيده لمدعي سرقته حجة ؟