فصل : وإذ قد تميز أهل الفيء عن أهل الصدقة بما وصفنا ، فسنذكر أهل الصدقة في قسم الصدقات ونبين فنقول : ينبغي للإمام أن يثبت المقاتلة في جميع الثغور والبلدان في ديوانه وما يحتاجون إليه في نفقاتهم ومؤناتهم فيعطيهم من مال الفيء قدر كفاياتهم حتى لا يتشاغلوا باكتساب المال عن جهاد العدو ويكونوا متشاغلين بالحرب في الذب عن البيضة . حكم أهل الفيء
وإذا لزم الإمام القيام بكفايتهم فكفايتهم تختلف من خمسة أوجه :
أحدها : كثرة العيال وقلتهم الذين تلزم نفقاتهم من الأولاد والزوجات والعبيد والخدم ، فيثبت ذرية كل واحد منهم وهم من لم يبلغ من أولاده فثبت ما يحتاجون إليه في حال الفقر ، ثم في حال النشوء والكبر ، هذا معنى قول الشافعي : وتعطي المنفوس شيئا وكلما كبر يزاد على قدر مؤنته ، يعني : أنه يعطي أباه لأجله ويزيد لكبره . ويفعل مثل ذلك في الزوجات والعبيد والخدم ليعلم بذلك قدر مؤنته .
والثاني : أن يعرف حاله هل هو من الرجالة أو الفرسان ، فإن كان من الفرسان عرف عدد خيله وظهره .
والثالث : أن يعرف حال بلده في قربه من المغزى وبعده ، فإنه إن بعد كثرت مؤنته وإن قرب قلت .
والرابع : أن يعرف خصب بلده وجدبه ، فإن المؤن في بلاد الخصب قليلة في بلاد الجدب كثيرة .
والخامس : أن يعرف غلاء السعر ورخصه ليزيده مع الغلاء وينقصه مع الرخص ، [ ص: 444 ] فإذا كشف عن أحوالهم في هذه الوجوه الخمسة ، عرف قدر كفايتهم فأثبتها أو جعلها مبلغ أرزاقهم في كل عام من غير صرف ولا تقصير وذلك قد يختلف بحسب اختلاف أحوالهم في الوجوه الخمسة : فلذلك ما اختلف قدر أرزاقهم وإن وجبت بالتسوية بينهم في القيام بكفاياتهم .
وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه بلغ بالعطاء خمسة آلاف درهم ، فمن الناس من زعم أن هذا أكثر من قدر الكفاية ، ولا يجوز أن يفرض للمقاتلة أكثر من كفايتهم ، وقيل : ليس هكذا : لأن خمسة آلاف درهم مع بعد المغزى وغلاء الأسعار ليست بأكثر من كفاية ذي عيال ، فإذا ثبت ما ذكرنا من تقدير أرزاقهم بحسب كفاياتهم خرج ما يعطونهم منها على القولين في مصرف أربعة أخماس الفيء .
فإن قيل : إنه مصروف في مصالح المسلمين العامة ، أعطوا منه قدر أرزاقهم من غير زيادة ولا نقص ، فإن فضل عنها كان الفضل باقيا في بيت المال ، وإن نقص عنها كان الباقي لهم دينا على بيت المال ، وإن قيل : إنه للجيش خاصة ، قسم بينهم على قدر كفاياتهم بزيادة ونقص .
مثاله : أن يكون رزق أحدهم الكافي له ألف درهم ، ورزق الآخر ألفي درهم ، ورزق الثالث الآخر ثلاثة آلاف درهم ، ورزق الرابع أربعة آلاف درهم ، فيكون رزق هؤلاء الأربعة عشرة آلاف درهم ، لصاحب الألف عشرها ، ولصاحب الألفين خمسها ، ولصاحب الثلاثة آلاف ثلاثة أعشارها ، ولصاحب الأربعة آلاف خمسها ، فينقسم الحاصل من أربعة أخماس الفيء على عشرة أسهم لصاحب الألف سهم ، ولصاحب الألفين سهمان ، ولصاحب الثلاثة آلاف ثلاثة أسهم . وعلى هذا الحساب فإن كان المال عشرة آلاف درهم بقدر أرزاقهم فقد استوفوها ، وإن كان أكثر قسم جميعه على هذا ، أو كانت الزيادة لهم ، ولا يحتسب بما عليهم ، وإن كانت أقل كان النقصان عليهم لا يحتسب به لهم ، فيكون الفرق بين القولين من وجهين :
أحدهما : أنهم على القول الأول إذا اتسع المال لم يزادوا على أرزاقه ، وعلى الثاني يزادون .
والوجه الثاني : من الفرق بينهما أنهما على القول الأول إذا ضاق المال يقضون بقية أرزاقهم وعلى الثاني لا يقضون .