مسألة : قال الشافعي : " ولو لم يكن بقي عليها إلا طلقة فطلقها واحدة كانت له الألف لأنها قامت مقام الثلاث في أنها تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ( قال المزني ) رحمه الله وقياس قوله ما حرمها إلا الأوليان مع الثالثة كما لم يسكره في قوله إلا القدحان مع الثالث وكما لم يعم الأعور المفقوءة عينه الباقية إلا الفقء الأول مع الفقء الآخر وأنه ليس على الفاقئ الأخير عنده إلا نصف الدية فكذلك يلزمه أن يقول لم يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره إلا الأوليان مع الثالثة فليس عليها إلا ثلث الألف بالطلقة الثالثة في معنى قوله " .
قال الماوردي : وصورتها في رجل طلق زوجته طلقتين ، وبقيت معه على واحدة ، أو قال : أنت طالق الثالثة ، أو قال : أنت طالق ثلاثا بألف ، فكل ذلك سواء ، ولا تطلق منه إلا واحدة ، لأن الباقي له عليها طلقة واحدة . فقالت له : طلقني ثلاثا بألف ، فقال لها : أنت طالق واحدة ،
قال الشافعي : كانت له بهذه الطلقة الواحدة جميع الألف ثم علل الشافعي في استحقاقها لجميع الألف بأن هذه الطلقة الواحدة قد قامت مقام الثلاث في أنها تحرم حتى تنكح زوجا غيره ، فصار لها بهذه الطلقة الواحدة مقصودها بالطلاق الثلاث وهو التحريم الذي لا تحل معه إلا بعد زوج فاستحق بها ما يستحق بالثلاث ، وهو جميع الألف .
فاعترض المزني على الشافعي فقال : " ينبغي ألا يستحق إلا ثلث الألف ، لأن قياس قوله " ما حرمها إلا الأوليان مع الثالثة كما لم يسكره في قوله إلا القدحان مع الثالث وكما لم يعم الأعور المفقوءة عينه الباقية إلا الفقء الأول مع الفقء الآخر ، وأنه ليس على الفاقئ الأخير إلا نصف الدية ، كذلك يلزمه أن يقول : لم يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره إلا الأوليان مع الثالثة فليس أن يقول عليها إلا ثلث الألف بالطلقة الثالثة . [ ص: 49 ] فاختلف أصحابنا لهذا الاعتراض على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أن الحكم على ما قاله المزني من أنه لا يستحق بالثالثة إلا ثلث الألف سواء علمت أن الباقي عليها طلقة أو لم تعلم ، تعليلا بما استشهد به المزني من حال السكر بالقدح الثالث أنه يكون به وبالأولين ويفقئ عين الأعور أنه يكون ذهاب البصر بالفقء الثاني مع الأول .
والوجه الثاني : أن جواب الشافعي صحيح على ظاهره ، وأن له جميع الألف بالطلقة الثالثة تعليلا بما ذكره من حصول التحريم بها كحصوله بالثلاث ، سواء علمت أن الباقي عليها طلقة أو لم تعلم ، وانفصلوا عن استشهاد المزني بالسكر والفقء بأن لكل واحد من الأقداح الثلاثة تأثير في مبادئ السكر بالأول وبوسطه بالثاني وكماله بالثالث ، وكذلك الفقء الأول قد أثر في ضعف النظر ، وقلة البصر ثم ذهب بالثاني ، وليس كذلك حال الطلقتين الأولتين ، لأنه لم يتعلق بهما شيء من تحريم الثلاث وكانت تحل بالرجعة بعدهما ، كما تحل قبلهما ، ثم وقعت الثالثة فتعلق بها جميع التحريم فصار ما استشهد به مفارقا للطلاق .
والوجه الثالث : وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي أن جواب الشافعي مفروض على أن الزوجة علمت أن الباقي له عليها طلقة واحدة ، فصار قولها طلقني ثلاثا بألف وهو لا يملك ثلاثا محمولا على أنها أرادت الثالثة ، فلذلك كان له جميع الألف ولو لم تعلم أن الباقي له طلقة واحدة وظنت أنه يملك معها ثلاث طلقات لم يكن له إلا ثلث الألف ، لأنها لم تبذل الألف إلا في مقابلة الثلاث ، فعلى هذا لو اختلف الزوجان فقال الزوج : قد علمت أيتها الزوجة أن الباقي لي عليك طلقة فلي جميع الألف .
وقالت الزوجة : بل ظننت أنك تملك الثلاث ولم أعلم أن الباقي لك تطليقة فليس لك إلا ثلث الألف فإنهما يتحالفان ويحكم له بعد التحالف بمهر المثل ، لأن هذا اختلاف منهما في قدر العوض فهي تقول : خالعتك على هذه الواحدة بثلث الألف ، وهو يقول : بجميع الألف ، فلذلك وجب التحالف والرجوع إلى مهر المثل ، وعلى هذا لو كان قد طلقها واحدة وبقيت معه على اثنتين فقالت : طلقني ثلاثا بألف ، فطلقها طلقتين استحق إن علمت جميع الألف ، وإن جهلت ثلثي الألف ، ولو طلقها واحدة استحق إن علمت نصف الألف ، وإن جهلت ثلث الألف .
قال الشافعي رحمه الله : " ولو كان له الألف وكان متطوعا بالاثنتين " . [ ص: 50 ] قال قالت له طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثا الماوردي : وهذا كما قال ، لأن الطلقة التي سألتها داخلة في الثلاث التي أوقعها فوجب أن يستحق عليها الألف التي بذلتها ، وإن تطوع بالزيادة عليها كما لو قال له إن جئتني بعبدي الآبق فلك دينار ، فجاءه بعبدين استحق الدينار ، وإن تطوع بمجيئه بالعبد الآخر .