فصل : وأما
nindex.php?page=treesubj&link=11767السكران فعلى ضربين :
أحدهما : أن يسكر بشرب مطرب ( فعلى ضربين ) .
والثاني : أن يسكر بشرب دواء غير مطرب ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=11767سكر بشرب مسكر مطرب فعلى ضربين :
أحدهما : أن لا ينسب فيه إلى معصية ، إما لأنه شربه وهو لا يعلم أنه مسكر ، وإما بأن أكره عليه وأوجر الشراب في حلقه ، فهذا في حكم المغلوب على عقله ، ولا طلاق عليه لارتفاع المأثم عنه .
[ ص: 236 ] والضرب الثاني : أن يكون عاصيا فيه لعلمه بأنه مسكر ، وشربه له مختارا ، فقد اختلف الناس في وقوع طلاقه ، فذهب
الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء إلى وقوع طلاقه .
وحكي عن
عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
ومجاهد وربيعة والليث بن سعد وداود أن طلاقه لا يقع ، وبه قال من أصحابنا
المزني وأبو ثور ، ومن أصحاب
أبي حنيفة الطحاوي والكرخي ، وحكى
المزني في جامعه الكبير عن
الشافعي في القديم في
nindex.php?page=treesubj&link=12038ظهار السكران قولين :
أحدهما : وهو المنصوص عليه في كتبه يقع ، والمشهور من مذهبه .
والثاني : لا يقع وحكم طلاقه وظهاره في الوقوع والسقوط واحد ، فاختلف أصحابنا في هذا القول الذي تفرد
المزني بنقله في القديم ، ولم يساعده غيره من أصحاب القديم ، ولا وجد في شيء من كتبه القديمة هل يصح تخريجه قولا ثانيا
للشافعي في القديم ، أن طلاقه وظهاره لا يقع : فذهبت طائفة منهم إلى صحة تخريجه ، وأنه قول ثان
للشافعي ، لأن
المزني ثقة فيما يرويه ضابطا لما ينقله ويحكيه ، وذهب الأكثرون منهم إلى أنه لا يصح هذا التخريج ، وليس في طلاق السكران إلا قول واحد أنه يقع ، لأن
المزني وإن كان ثقة ضابطا ، فأصحاب القديم بمذهبيه فيه أعرف ، ويجوز إن ظهر به
المزني أن يكون حكاه عن غيره .
واستدل من ذهب إلى أن طلاقه غير واقع ، بأنه مفقود الإرادة بعلم ظاهر ، فلم يقع طلاقه كالمكره . ولأنه زائل العقل ، فلم يقع طلاقه كالمجنون ، ولأنه غير مميز فلم يقع طلاقه كالصغير ودليلنا من طريقين :
أحدهما : ثبوت تكليفه .
والثاني : وقوع طلاقه .
فأما ثبوت تكليفه فبقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 143 ] .
فدلت على تكليفهم من وجهين :
أحدهما : تسميتهم بالمؤمنين ، وندائهم بالإيمان ، ولا ينادى به إلا لهم .
والثاني : نهيهم في حال السكر أن يقربوا الصلاة ، ولا ينهى إلا مكلف ، ولأنه إجماع الصحابة ، لأن
عمر شاورهم في حد الخمر ، وقال : أرى الناس قد بالغوا في شربه واستهانوا بحده ، فماذا ترون ؟ فقال
علي عليه السلام : إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فأرى أن يحد حد المفتري ثمانين ، فحده
عمر وعثمان [ ص: 237 ] وعلي ثمانين ، فكان الدليل منه أن الزيادة على الأربعين علة لافترائه في سكره ، ولو كان غير مكلف لما حد بما أتاه ولا كان مؤاخذا به وفي مؤاخذته به دليل على تكليفه ، فإذا ثبت أنه مكلف ، وجب أن يقع طلاقه كالصاحي .
وأما الدليل على وقوع طلاقه في الأصل ، فما رواه
الزهري عن
سعيد بن المسيب ورواه
عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة بنت خويلد تزوجها من أبيها خويلد وهو سكران ودخل بها ، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزوج نشوان ولا يطلق إلا أجزته وهذا نص .
ولأنه مؤاخذ بسكره ، فوجب أن يكون مؤاخذا بما حدث عن سكره ، ألا ترى أن من جنى جناية فسرت لما كان مؤاخذا بها ، كان مؤاخذا بسرايتها ، فإن قيل فليس السكر من فعله وإنما هو من فعل الله تعالى فيه ، فكيف صار منسوبا إليه ، ومؤاخذا به ؟ قيل : لأن سببه وهو الشرب من فعله . فصار ما حدث عنه وإن كان من فعل الله تعالى منسوبا إلى فعله ، كما أن سراية الجناية لما حدثت عن فعله ، نسبت إليه وكان مؤاخذا بها ، وإن كان من فعل الله تعالى فيه ، لأن رفع الطلاق تخفيف ورخصة ، وإيقاعه تغليظ وغريمة ، فإذا وقع من الصاحي وليس بعاص ، كان وقوعه من السكران مع المعصية أولى ، لأن السكران ليس يستدل على سكره بعلم ظاهر ، هو معذور فيه ، وإنما يعرف من جهته ، وهو فاسق مردود الخبر وربما تساكر تصنعا ، فلم يجز أن يعدل به عن يقين الحكم السابق ، بالتوهم الطارئ ، ولا يجوز اعتباره بالمكره والمجنون لأمرين :
أحدهما : أن مع المكره والمجنون علم ظاهر يدل على فقد الإرادة هما فيه معذوران ، بخلاف السكران .
والثاني : أن المكره والمجنون غير مؤاخذين بالإكراه والجنون ، فلم يؤاخذا بما حدث فيهما ، كما أن من قطع يد سارق فسرت إلى نفسه ، لا يؤاخذه بالسراية ، لأنه غير مؤاخذ بالقطع ، ولو كان متعديا بالقطع لكان مؤاخذا بالسراية ، كما كان مؤاخذا بالقطع ، وخالف الصبي لأنه مكلف ، والصبي غير مكلف ، وإذا صح أن طلاقه واقع ، فقد اختلف أصحابنا في
nindex.php?page=treesubj&link=11767علة وقوعه على ثلاثة أوجه :
أحدهما وهو قول
أبي العباس بن سريج : العلة في وقوع طلاقه أنه متهم فيه لنفسه ، وأنه لا يعلم سكره إلا من جهته ، فعلى هذا يلزمه الطلاق وجميع الأحكام المغلظة والمخففة في الظاهر دون الباطن ، ويكون فيما بينه وبين الله تعالى فيها مدينا .
[ ص: 238 ] والوجه الثاني : أن العلة في وقوع طلاقه بأن المعصية مغلظة عليه ، فعلى هذا يلزمه كل ما كان مغلظا من الطلاق ، والظهار والعتق والردة والحدود ، ولا يصح منه ما كان تخفيفا كالنكاح والرجعة ، وقبول الهبات والوصايا .
والوجه الثالث وهو قول الجمهور : أن العلة في وقوع طلاقه إسقاط حكم سكره بتكليفه ، وأنه كالصاحي فعلى هذا يصح منه جميع ما كان تغليظا وتخفيفا ، ظاهرا وباطنا ، قال
أبو حامد المروزي : كنت أذهب إلى الوجه الثاني حتى وجدت نصا
للشافعي أنه يصح رجعته وإسلامه من الردة فرجعت إلى هذا الوجه .
فَصْلٌ : وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=11767السَّكْرَانُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْكَرَ بِشُرْبِ مُطْرِبٍ ( فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ) .
وَالثَّانِي : أَنْ يَسْكَرَ بِشُرْبِ دَوَاءٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ ، فَإِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=11767سَكِرَ بِشُرْبِ مُسْكِرٍ مُطْرِبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يُنْسَبَ فِيهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، إِمَّا لِأَنَّهُ شَرِبَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَإِمَّا بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَأُوجِرَ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ ، فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ عَنْهُ .
[ ص: 236 ] وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فِيهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَشُرْبِهِ لَهُ مُخْتَارًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ .
وَحُكِيَ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَمُجَاهِدٍ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَدَاوُدَ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا
الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ ، وَحَكَى
الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=12038ظِهَارِ السَّكْرَانِ قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ يَقَعُ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ .
وَالثَّانِي : لَا يَقَعُ وَحُكْمُ طَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ فِي الْوُقُوعِ وَالسُّقُوطِ وَاحِدٌ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ
الْمُزَنِيُّ بِنَقْلِهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ ، وَلَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ قَوْلًا ثَانِيًا
لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّ طَلَاقَهُ وَظِهَارَهُ لَا يَقَعُ : فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ تَخْرِيجِهِ ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ ثَانٍ
لِلشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ
الْمُزَنِيَّ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا يَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّخْرِيجُ ، وَلَيْسَ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ يَقَعُ ، لِأَنَّ
الْمُزَنِيَّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا ، فَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ بِمَذْهَبَيْهِ فِيهِ أَعْرَفُ ، وَيَجُوزُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ
الْمُزَنِيُّ أَنْ يَكُونَ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ .
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ ، بِأَنَّهُ مَفْقُودُ الْإِرَادَةِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ . وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالصَّغِيرِ وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ .
وَالثَّانِي : وُقُوعُ طَلَاقِهِ .
فَأَمَّا ثُبُوتُ تَكْلِيفِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النِّسَاءِ : 143 ] .
فَدَلَّتْ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَسْمِيَتُهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَنِدَائُهُمْ بِالْإِيمَانِ ، وَلَا يُنَادَى بِهِ إِلَّا لَهُمُ .
وَالثَّانِي : نَهْيُهُمْ فِي حَالِ السُّكْرِ أَنْ يَقْرَبُوا الصَّلَاةَ ، وَلَا يُنْهَى إِلَّا مُكَلَّفٌ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، لِأَنَّ
عُمَرَ شَاوَرَهُمْ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ، وَقَالَ : أَرَى النَّاسَ قَدْ بَالَغُوا فِي شُرْبِهِ وَاسْتَهَانُوا بِحَدِّهِ ، فَمَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ
عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، فَأَرَى أَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ ، فَحَدَّهُ
عُمَرُ وَعُثْمَانُ [ ص: 237 ] وَعَلِيٌّ ثَمَانِينَ ، فَكَانَ الدَّلِيلُ مِنْهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عِلَّةٌ لِافْتِرَائِهِ فِي سُكْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمَا حُدَّ بِمَا أَتَاهُ وَلَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ كَالصَّاحِي .
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي الْأَصْلِ ، فَمَا رَوَاهُ
الزُّهْرِيُّ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَرَوَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ nindex.php?page=showalam&ids=10640خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَبِيهَا خُوَيْلِدٍ وَهُوَ سَكْرَانُ وَدَخَلَ بِهَا ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُزَوِّجُ نَشْوَانُ وَلَا يُطَلِّقُ إِلَّا أَجَزْتُهُ وَهَذَا نَصٌّ .
وَلِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِسُكْرِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِمَا حَدَثَ عَنْ سُكْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ جَنَى جِنَايَةً فَسَرَتْ لَمَّا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا ، كَانَ مُؤَاخَذًا بِسِرَايَتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ فَلَيْسَ السُّكْرُ مَنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، فَكَيْفَ صَارَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ ، وَمُؤَاخَذًا بِهِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الشُّرْبُ مِنْ فِعْلِهِ . فَصَارَ مَا حَدَثَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ ، كَمَا أَنَّ سَرَايَةَ الْجِنَايَةِ لَمَّا حَدَثَتْ عَنْ فِعْلِهِ ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، لِأَنَّ رَفْعَ الطَّلَاقِ تَخْفِيفٌ وَرُخْصَةٌ ، وَإِيقَاعَهُ تَغْلِيظٌ وَغَرِيمَةٌ ، فَإِذَا وَقَعَ مِنَ الصَّاحِي وَلَيْسَ بِعَاصٍ ، كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ السَّكْرَانِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَيْسَ يُسْتَدَلُّ عَلَى سُكْرِهِ بِعِلْمٍ ظَاهِرٍ ، هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الْخَبَرِ وَرُبَّمَا تَسَاكَرَ تَصَنُّعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ يَقِينِ الْحُكْمِ السَّابِقِ ، بِالتَّوَهُّمِ الطَّارِئِ ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ عِلْمٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى فَقْدِ الْإِرَادَةِ هُمَا فِيهِ مَعْذُورَانِ ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُكْرَهَ وَالْمَجْنُونَ غَيْرُ مُؤَاخَذَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ ، فَلَمْ يُؤَاخَذَا بِمَا حَدَثَ فِيهِمَا ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فَسَرَتْ إِلَى نَفْسِهِ ، لَا يُؤَاخِذُهُ بِالسِّرَايَةِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِالْقَطْعِ ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالْقَطْعِ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِالسَّرَايَةِ ، كَمَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِالْقَطْعِ ، وَخَالَفَ الصَّبِيَّ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ ، وَالصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=11767عِلَّةِ وُقُوعِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : الْعِلَّةُ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَنَّهُ مُتَّهِمٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ سُكْرُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَدِينًا .
[ ص: 238 ] وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُغَلَّظَةٌ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ كُلُّ مَا كَانَ مُغَلَّظًا مِنَ الطَّلَاقِ ، وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْحُدُودِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ مَا كَانَ تَخْفِيفًا كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ ، وَقَبُولِ الْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ إِسْقَاطُ حُكْمِ سُكْرِهِ بِتَكْلِيفِهِ ، وَأَنَّهُ كَالصَّاحِي فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ تَغْلِيظًا وَتَخْفِيفًا ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، قَالَ
أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ : كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى وَجَدْتُ نَصًّا
لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ رَجْعَتُهُ وَإِسْلَامُهُ مِنَ الرِّدَّةِ فَرَجَعْتُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ .