مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو لم يجزئه، والولاء لمن أعتقه، ولو أعتقه بأمره بجعل أو غيره أجزأه والولاء له، وهذا مثل شراء مقبوض أو هبة مقبوضة ( قال أعتق عنه رجل عبدا بغير أمره المزني ) معناه عندي أن يعتقه عنه بجعل " .
قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال من أعتق عبده عن غيره من أحد أمرين ؛ إما أن يعتقه عن حي أو ميت ، فإن أعتق عن حي لم يخل عتقه من أن يكون بإذن المعتق عنه أو بغير إذن ، فإن أعتقه عنه بغير إذنه كان العتق واقعا عن المعتق دون المعتق عنه، سواء أعتقه عنه تطوعا أو عن واجب .
وقال مالك : إن أعتقه عنه تطوعا لم يجزه، وكان العتق عن المعتق وله الولاء ، فإن أعتقه عن واجب جاز، وكان عن المعتق عنه وله الولاء استدلالا بما روي أن عائشة رضي الله عنها أعتقت عبدا لها عن أخيها عبد الرحمن رجاء أن ينفعه ويلحقه ثوابه ، ولأن العتق الواجب كالدين ويجوز أن يقضى دين الحي بغير إذنه فكذلك يجوز أن يعتق عنه بغير إذنه .
ودليلنا قول الله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] فكان على عمومه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - . فلم يجعل الولاء إلا لمعتق ، ولأن من كتاب الله أصدق وشرطه أوثق والولاء لمن أعتق لم يجزه، وفي عتق غيره عنه عند عدم العتق منه وعدم النية فكان بأن لا يجزيه أولى ، ولأن العبادات ضربان ؛ على بدن وفي مال . فأما عبادات الأبدان : كالصلاة والصيام والحج فلا تصح فيها النيابة بحال ، وأما عبادات الأموال كالحج والزكاة فلا تصح فيها النيابة بغير إذن وتصح بإذن ، كذلك العتق في الكفارة عبادة في مال يجب أن تصح بإذن ولا تصح بغير إذن . أعتق عن نفسه بغير نية
فأما الجواب عن عتق عائشة رضي الله عنها عن أخيها فظاهره أنه تطوع لقولها رجاء أن ينفعه ويلحقه ثوابه ومالك يمنع من تطوع العتق بغير إذن، ولو كان عن واجب لاحتمل أن يكون عن إذنه في حياته أو بوصية منه بعد وفاته فلم يكن فيه دليل .
وأما الجواب عن قضاء الدين : فهو أنه لا يعتبر فيه النية ولذلك سقط بالإبراء وإن لم توجد فيه نية الأداء فجاز لعدم النية فيه أن يقضى عنه، والعتق مستحق فيه النية، فلم يجز مع استحقاقها أن يعتق عنه .
[ ص: 482 ] فصل : وإن جاز وكان الولاء للمعتق عنه سواء كان العتق تطوعا أو واجبا، وسواء أعتق عنه بجعل أو بغير جعل . أعتق عن الحي بإذنه
وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه عنه بجعل جاز، وإن أعتقه بغير جعل لم يجز، استدلالا بأنه إذا كان عن جعل فهو مبيع، وعتق المبيع قبل قبضه يجوز ، وإذا كان بغير جعل فهو هبة، وعتق الموهوب قبل قبضه لا يجوز، ولأن القبض شرط في صحة الهبة وليس بالعتق فيها قبضا ؛ لأنه بتسليم الرقبة ولم يحصل بالعتق تسليم .
ودليلنا : هو أن العتق في الشرع قد أقيم مقام القبض، بدليل أن من اشترى عبدا لو أعتقه في يد بائعه نفذ عتقه وسقط عن البائع ضمانه، وإذا كان قبضا في البيع صار قبضا في الهبة، فوجب أن يستويا في صحة العتق .
ولأن يحصل استدعاء معاوضة تفتقر عندنا إلى إيجاب وقبض، وعند الإذن في العتق أبي حنيفة إلى إيجاب وقبول وقبض والعتق قائم مقام الإيجاب والقبض عندنا، وقائم مقام الإيجاب والقبول والقبض عندهم ، والإذن في العتق بغير جعل يحصل استدعاء هبة يفتقر عندنا إلى إيجاب وقبض وعندهم إلى إيجاب وقبول وقبض، واقتضى أن يكون العتق بعدها قائما مقام الإيجاب والقبض كالبيع ، وفي هذين الاستدلالين انفصال عما ذكروه من استدلالين ، ولأن الحقوق إذا جازت بفعل الغير لم يشترط فيها بدل العوض كالزكاة والحج ، فأما المزني فإنه قال معناه عندي أن يعتقه عنه بجعل، فإن أراد به معناه عند الشافعي فهو خطأ عليه ، وقد صرح بإبطاله في قوله ولو أعتقه عنه بأمره بجعل أو غيره فسواء في العتق عنه بأمره بين أن يكون بجعل أو غيره ، وإن أراد به مذهبا لنفسه فهو قول أبي حنيفة وقد مضى الكلام معه .
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من جواز العتق عنه بأمره بجعل أو غيره ، فإنه بالجعل بيع وبغير الجعل هبة، فهو لا يعتقه عنه إلا وقد ملكه ثم عتق ، واختلف أصحابنا : متى يصير مالكا ؟ على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه يتبين بالعتق أنه قد كان مالكا له باستدعاء العتق ثم عتق عليه بعد الملك بلفظ العتق .
والوجه الثاني : أنه يملكه بأول لفظ العتق، ويعتق بآخر لفظ العتق .
والوجه الثالث : وهو قول أبي إسحاق المروزي أن يقع الملك والعتق معا في حالة واحدة بلفظ العتق فمن اشترى أباه ملكه وعتق عليه في حالة واحدة بنفس الشراء .
وفيه وجه رابع : قاله أبو حامد الإسفراييني أنه يملكه بلفظ العتق ويعتق بعد [ ص: 483 ] استقرار الملك ، [ وكذلك يقول فيمن اشترى أباه أنه يملكه بالشراء ويعتق عليه بعد استقرار الملك ] .
ومثال هذه المسألة اختلاف أصحابنا فيمن دعي إلى أكل طعام، متى يملك ما يأكله ؟ على ثلاثة أوجه :
أحدها : يملك اللقمة إذا أخذها بيده .
والثاني : إذا وضعها في فمه .
والثالث : إذا ابتلعها ، فإذا قلنا : إنه يملكها إذا أخذها بيده فهل يجوز له أن يطعمها غيره أم لا على وجهين :
أحدهما : له ذلك لأنه قد صار مالكها .
والوجه الثاني : ليس له ذلك لأنه مأذون له في تملكها على وجه مخصوص كالعارية التي يجوز أن يملك منافعها في حق نفسه ولا يجوز أن يعيرها غيره .