[ القول في نفقة الأقارب ] فصل : وإذا قد مضى الكلام في وجوب نفقة الوالدين والمولودين على قربهم وبعدهم فهي مقصورة عليهم وساقطة فيمن عداهم من عصباتهم وذوي محارمهم وأرحامهم ، وإن اختلف الفقهاء فيمن عدا الوالدين والمولودين على مذاهب شتى
: أحدها : وهو مذهب الإمام الشافعي ، سقوط نفقاتهم وإن كانوا فقراء زمنى ، فلا تجب ، وهي أضيق المذاهب فيهم ، وإن كان أضيق منه مذهب نفقة الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات مالك في اقتصاره على وجوب نفقة الأب دون الأمهات والأجداد ، ووجوب نفقة الولد وأولاد الأولاد على الأب وحده دون الأمهات والأجداد .
والمذهب الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة ، إنها تجب نفقة كل ذي محرم كالإخوة والأخوات وأولادهما والأعمام والعمات والأخوال والخالات دون أولادهما إذا اتفقوا في الدين ، فإن اختلفوا فيه لم تجب نفقاتهم ، وأوجب نفقات الوالدين والمولودين مع اتفاق الدين واختلافه .
والمذهب الثالث : وهو مذهب الأوزاعي وبه قال عمر : إن النفقة تجب على جميع العصبات دون ذوي الأرحام من عدا الوالدين والمولودين .
والمذهب الرابع : وهو مذهب أبي ثور أنها تجب لكل موروث وتسقط فيمن ليس بموروث .
والمذهب الخامس : وهو محكي عن أبي الخطاب ، وإن شذ عن الفقهاء أنها تجب على [ ص: 492 ] كل ذي قربى ورحم من قريب أو بعيد ، واستدل من نص على قول أبي حنيفة بقول الله تعالى : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) [ الأنفال : 75 ] وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقبل الله صدقة امرىء وذو رحم محتاج " ، ولأنه مناسب ذو رحم محرم فوجبت نفقته مع اتفاق الدين كالوالدين والمولودين ، قال : ولأنه مال مستحق بالنسب فوجب أن يتجاوز الوالدين والمولودين كالميراث .
واستدل من نص على قول الأوزاعي بقول الله عز وجل : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) [ مريم : 6 ] .
واستدل من نص على قول أبي ثور بقول الله تعالى : ( وعلى الوارث مثل ذلك ) [ البقرة : 233 ] ، واستدل من نص قول أبي الخطاب بقول الله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) [ الإسراء : 26 ] .
ودليلنا حديث أبي هريرة ، فكان أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن معي دينارا ، قال : أنفقه على نفسك ، قال : أنا معي آخر ، قال : أنفقه على ولدك ، قال : إن معي آخر ، قال : أنفقه على زوجتك ، قال : إن معي آخر ، قال : أنفقه على عبدك ، قال : إن معي آخر ، قال : اصنع به ما شئت أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : يقول لك ابنك : انفق علي إلى من تكلني ، وتقول لك زوجتك : انفق علي أو طلقني ، ويقول لك عبدك : انفق علي أو بعني ، فكان هذا الحديث متوجها إلى بيان الأسباب التي تستحق بها النفقة ، ولم يذكر سبب ذوي المحارم بخلاف ما قال أبو حنيفة ، ولا العصبات بخلاف ما قال الأوزاعي ، ولا الورثة بخلاف ما قال أبو ثور ، ولا ذوي الأرحام بخلاف ما قال أبو الخطاب ، فصاروا محجوبين به ، ويدل على ذلك من طريق القياس أن كل من قبلت شهادته له لم تجب نفقته عليه كالأجانب طردا والوالدين والمولودين عكسا ، لأنه لا يجوز دفع الزكاة إليهم لغنى بهم بوجوب نفقتهم عليه ، ويجوز دفع الزكاة إلى غيرهم فاقتضى أن يكون لفقرهم بسقوط نفقته عنه ولأن من لا يلزمه أن ينفق عليه من كسبه لم يلزمه أن ينفق عليه من ماله قياسا على الأباعد ، لأنه لا يلزم أن ينفق من الكسب إلا على الوالدين والمولودين دون غيرهم ، وعلى أبي حنيفة خاصة أن كل من لا يلزم الإنفاق عليه مع اختلاف الدين لم يلزم الإنفاق عليه مع اتفاق الدين كبني الأعمام .
فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بقول الله تعالى : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) فإبهام ما يكون به بعضهم أولى ببعض يمنع من تعيينه في وجوب النفقة ، فإن قيل فهو على العموم إلا ما خص بدليل ، قيل هذا إضمار ، وادعاء [ ص: 493 ] العموم في المضمرات لا يصح ، على أنها وردت ناسخة للتوارث بالإسلام والهجرة واستحقاقه بالقرابة ، وأما قوله : " لا يقبل الله صدقة امرىء وذو رحم محتاج " فهو محمول على فضل الصدقة على ذي الرحم لا على وجوب النفقة ، لقوله في خبر آخر : " " . صدقتك على غير ذي رحمك صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة
وأما قياسه على الوالدين والمولودين ، فالمعنى فيهم : منعهم من زكاته ومن الشهادة له .
وأما قياسه على الميراث فالمعنى فيه تجاوزه لذوي المحارم الذي يخالف فيه النفقة ، فلذلك خالفته في ذوي المحارم .
وأما استدلال الأوزاعي بقوله تعالى : ( فهب لي من لدنك وليا ) فهو محمول على ما صرح بطلبه من قوله : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) ، وأما استدلال أبي ثور بقوله تعالى : ( وعلى الوارث مثل ذلك ) فقد تقدم الجواب عليه من حمله على أن لا تضار والدة بولدها ، وأما استدلال أبي الخطاب بقوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) فمحمول على ذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه ضم إليه المسكين وابن السبيل ، والله أعلم .