مسألة : قال الشافعي : ويقتل بالواحد واحتج بأن عمر - رضي الله عنه - قتل خمسة [ ص: 27 ] أو سبعة برجل قتلوه غيلة وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا .
قال الماوردي : وهو كما قال وبه قال من الصحابة : إذا اشترك الجماعة في قتل واحد قتلوا به جميعا إذا كانوا له أكفاء عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم .
ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعطاء .
ومن الفقهاء :
مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق .
وقالت طائفة : للولي أن يقتل به من الجماعة واحدا يرجع فيه إلى خياره ، ويأخذ من الباقين قسطهم من الدية ، وهو في الصحابة قول معاذ بن جبل ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وفي التابعين : قول ابن سيرين ، والزهري .
وقال آخرون : لا قود على واحد من الجماعة بحال ، وتؤخذ منهم الدية بالسوية ، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وداود بن علي وأهل الظاهر ، استدلالا بقول الله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] وبقوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد [ البقرة : 178 ] فاقتضى هذا الظاهر أن لا تقتل بالنفس أكثر من نفس ، ولا بالحر أكثر من حر ، وبقوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل [ الإسراء : 33 ] ومن السرف قتل الجماعة بالواحد .
وروى جويبر عن الضحاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقتل اثنان بواحد وهذا نص ولأن الواحد لا يكافئ الجماعة لا يقتل بالجماعة إذا قتلهم ، ويقتل بأحدهم ، ويؤخذ من ماله ديات الباقين : كذلك إذا قتله جماعة لم يقتلوا به ، ولأن زيادة الوصف إذا منعت من القود حتى لم يقتل حر بعبد ، ولا مسلم بكافر ، كان زيادة العدد أولى أن تمنع من القود ، فلا يقتل جماعة بواحد ، ولأن للنفس بدلين قود ودية ، فلما لم يجب على الاثنين بقتل الواحد ديتان لم يجب عليهما قودان .
ودليلنا قول الله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] وسبب الحياة أنه إذا علم القاتل بوجوب القصاص عليه إذا قتل كف عن القتل ، فحيي القاتل والمقتول ، فلو لم يقتص من الجماعة بالواحد ، لما كان في القصاص حياة ، ولكان القاتل إذا هم بالقتل شارك غيره فسقط القصاص عنهما وصار رافعا لحكم النص . وروى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وأنا والله عاقله ، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا العقل . ثم أنتم يا
[ ص: 28 ] وهذا الخبر وارد في قتل الجماعة لواحد لأنه قال : خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل ثم قال : ثم أنتم يا فمن قتل بعده قتيلا و " من " ينطلق على الجماعة كانطلاقه على الواحد ثم قال : فدل على قتل الجماعة بالواحد : لأن الحكم إذا ورد على سبب ، لم يجز أن يكون السبب خارجا من ذلك الحكم . فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا العقل
وروى ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا به .
والقتل على أنواع : غيلة ، وفتك ، وغدر ، وصبر .
فالغيلة : الحيلة وهو أن يحتالوا له بالتمكن من الاستخفاء حتى يقتلوه .
والفتك : أن يكون آمنا فيراقب حتى يقتل .
والغدر : أن يقتل بعد أمانة .
والصبر : قتل الأسير محاصرة .
وروي عن علي - عليه السلام - أنه قتل ثلاثة قتلوا واحدا وكتب إلى أهل النهروان حين قتلوا عامله خباب بن الأرت : سلموا إلي قاتله قالوا : كلنا قتله قال : فاستسلموا إذن أقد منكم ، وسار إليهم فقتل أكثرهم .
وقتل المغيرة بن شعبة سبعة بواحد .
وقال ابن عباس : إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به ولو كانوا مائة .
وهذا قول أربعة من الصحابة فيهم إمامان عملا بما قالا به فلم يقابلهم قول معاذ وابن الزبير وصار ربيعة وداود خارجين من قول الفريقين بإحداث قول ثالث خالف فيه الفريقين فصارا مخالفين للإجماع ، لأن من أحدث قولا ثالثا بعد قولين أحدث قولا ثانيا بعد أول ، ولأن قتل النفس أغلظ من هتك العرض بالقذف فلما حد الجماعة بقتل الواحد ، كان أولى أن يقتلوا بقتل الواحد .
ولأن كل واحد من الجماعة ينطلق اسم القتل عليه ، فوجب أن يجري عليه حكمه كالواحد ، ولأن ما وجب في قتل الواحد لم يسقط في قتل الجماعة كالدية .
فأما قوله تعالى : النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] وقوله : الحر بالحر [ البقرة : 178 ] فمستعمل في الجنس لأن النفس تنطلق على النفوس ، والحر ينطلق على الأحرار .
[ ص: 29 ] وقوله : فلا يسرف في القتل [ الإسراء : 33 ] يريد أن لا يقتل غير قاتله على أن قوله تعالى : فقد جعلنا لوليه سلطانا [ الإسراء : 33 ] يقتضي أن يكون سلطانه في الجماعة كسلطانه في الواحد فصارت الآية دليلنا .
وأما حديث الضحاك فمرسل منكور وإن صح كان محمولا على الممسك والقاتل ، فيقتل به القاتل دون الممسك .
وقولهم إن دم الواحد لا يكافئ دم الجماعة - غير صحيح : لأن حرمة الواحد كحرمة الجماعة لقول الله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [ المائدة : 32 ] فوجب أن يكون القود فيهما واحدا ، وليس يوجب قتل الجماعة بالواحد ، أن يقتل الواحد بالجماعة ، وإن قال به أبو حنيفة لأن المقصود بالقود حقن الدماء ، وأن لا تهدر فقتل الجماعة بالواحد لئلا تهدر دماؤهم .
وقولهم : لما منع زيادة الوصف من القود كان أولى أن يمنع من زيادة العدد ، فالفرق بينهما أن زيادة الوصف منعت من وجود المماثلة في الواحد فلم تمنع في الجماعة ألا ترى أن زيادة الوصف في القاذف تمنع من وجوب الحد عليه ، وزيادة العدد لا يمنع من وجوب الحد عليهم ، وقولهم : لما لم تستحق بقتله ديتان لم تستحق به قودان ، فعنه جوابان :
أحدهما : أن الدية تتبعض فلم يجب أكثر منها ، والقود لا يتبعض فعم حكمه كسرقة الجماعة لما أوجبت غرما يتبعض ، وقطعا لا يتبعض اشتركوا في غرم واحد وقطع كل واحد منهم .
والثاني : أن القود موضوع للزجر والردع فلزم في الجماعة كلزومه في الواحد ، والدية بدل من النفس فلم يلزم فيها إلا بدل واحد ، فإذا ثبت قتل الجماعة بالواحد كان الولي فيه بالخيار بين ثلاثة أحوال : إما أن يقتص من جميعهم أو يعفو عن جميعهم إلى الدية فتسقط الدية الواحدة بينهم على أعدادهم ، أو يعفو عن بعضهم ، ويقتص من بعضهم ، ويأخذ ممن عفا عنه من الدية بقسطه .