فصل : فأما فيجوز أن يقتص في الحرم من القاتل في الحل والحرم ، وكذلك إقامة الحدود . استيفاء القصاص والحدود في الحرم
وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يقتص من القاتل في الحل إذا لجأ إلى الحرم ، ويلجأ إلى الخروج منه بالهجر وترك المبايعة والمشاراة معه حتى يخرج فيقتص منه في الحل ، استدلالا بقول الله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا [ آل عمران : 96 ] .
وقوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ العنكبوت : 67 ] فوجب بهاتين الآيتين أن يكون داخله آمنا ، وليس قتله فيه أمنا .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه والقاتل في الحرم ، والقاتل في الجاهلية
[ ص: 221 ] وقوله : القاتل في الحرم : يعني قودا وقصاصا ، لأن ابتداء القاتل داخل في قوله : ولأن حرمة الحرم منتشرة عن حرمة القاتل غير قاتله الكعبة فلما لم يجز قتله في الكعبة لم يجز قتله فيما انتشرت حرمتها إليه من جميع الحرم ، ولأن حرمة الآدميين أغلظ من حرمة الصيد ، فلما حرم قتل الصيد إذا لجأ إلى الحرم كان قتل الآدمي أشد تحريما .
ودليلنا عموم الظواهر من الكتاب والسنة في القصاص وإن لم يقترن بها تخصيص الحل من الحرم ، ولأن كل قصاص جاز استيفاؤه في الحل جاز استيفاؤه في الحرم كالقاتل في الحرم ولأن كل قصاص استوفي من جانبه في الحرم استوفي منه إذا لجأ إلى الحرم كالأطراف ، لأن أبا حنيفة وافق عليها ، ولأن كل موضع كان محلا للقصاص إذا جنى فيه كان محلا له وإن جنى في غيره كالحل ، ولأن النص وارد بتحريم الهجر وإباحة البيع قال الله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فأمر لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث أبو حنيفة بهجره وهو محظور ، ومنع من بيعه وهو مباح ، وأخر الاقتصاص منه وهو واجب ، فصار في الكل مخالفا للنص .
فأما الجواب عن قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ آل عمران : 96 ] فهو أنه محمول على البيت لقوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا [ آل عمران : 96 ] .
فإن قيل : فالمراد به الحرم . لأنه قال : فيه آيات بينات مقام إبراهيم [ آل عمران : 96 ] ومقامه خارج البيت لا فيه فعنه جوابان :
أحدهما : أن مقام إبراهيم حجر منقول لا يستقر مكانه ، فيجوز أن يكون في وقت وضع الحجر في البيت ثم أخرج منه .
والثاني : أنه محمول على أنه في مقام إبراهيم آيات بينات .
وأما قوله تعالى أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا [ العنكبوت : 67 ] فهو دليلنا لأن مقتضى الأمن أن لا يؤخر فيه الحقوق ويعجل استيفاؤها لأهلها ، وإذا أخرت صارت مضاعة فخرج الحرم عن أن يكون آمنا .
وأما الجواب عن الخبر وقوله القاتل في الحرم فمحمول على ابتداء القتل ظلما بغير حق دون القصاص لأمرين :
أحدهما : أن لقتل القصاص أسماء هو أخص إطلاقه على غيره .
والثاني : أنه جعله من أعتى الناس وليس المقتص من أعتى الناس ، لأنه مستوف [ ص: 222 ] لحقه ومستوفي الحق لا يكون عاتيا ، وإنما العاتي المبتدئ ولئن كان داخلا في قوله : فأعيد ذكر قتله في الحرم تغليظا وتأكيدا كما قال تعالى : من قتل غير قاتله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ البقرة : 238 ] وأما جمعه بين الكعبة والحرم فقد أجمعنا على الفرق بينهما لأنه يقتص منه في الحرم إذا قتل فيه فجاز أن يقتص منه فيه إذا لجأ إليه ، ولا يقتص منه في الكعبة إذا قتل فيها ، فلم يقتص منه فيها إذا لجأ إليها ، وما ذكروه من الصيد وتغليظ حرمة الآدمي عليه فاسد بالإحرام ، لأنه يمنع من قتل الصيد ولا يمنع من القصاص مع تغليظ حرمة الآدمي على الصيد كذلك حال الإحرام والله أعلم .