ألا أصبحينا قبل ثائرة الفجر لعل منايانا قريب وما ندري أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر فإن الذي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر سنمنعهم ما كان فينا بقية
كرام على العزاء في ساعة العسر
قال الماوردي : قصد الشافعي بهذه الجملة أمرين : [ ص: 109 ] أحدهما : الرد على طائفة نسبت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الخطأ في قتال أهل الجمل وصفين ، وهم من أهل القبلة ، وقالوا : هلا فعل مثل ما فعله عثمان أغلق بابه وكف أصحابه عن القتال ؟ وكالذي فعل ابنه الحسن حين رأى الثائرة قد هاجت ، والدماء قد طاحت ، سلم الأمر تسليم تقرب إلى معاوية ؟
فرد الشافعي عليهم : بأنه ما ابتدع ذلك ، ولا ارتكب فيه محظورا ، فقد فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال أهل القبلة من المسلمين مثل ما فعله ، وإن اختلف السببان فيه ، فإن أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان :
منهم من ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه ، مثل مسيلمة تنبأ باليمامة فارتد معه من أطاعه من بني حنيفة ، ومثل طليحة تنبأ باليمن فارتد معه من أطاعه من أهلها .
ومثل العنسي تنبأ في قومه فارتد معه من أطاعه منهم ، فجهز الجيوش إليهم ، وكان أول جيش سيره إليهم جيش أسامة ، وكان مبرزا بظاهر المدينة حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيرهم أبو بكر رضي الله عنه إلى أبنى من أرض الشام ، فعاد ظافرا ، ثم سير إلى مسيلمة جيشا وأمدهم بالجيوش حتى قتل من أهل الردة من قتل ، وأسلم منهم من أسلم .
فهذا ضرب منهم انطلق عليهم اسم الردة لغة وشرعا . والضرب الثاني منهم : من كان مقيما على إسلامه ومنع من الزكاة بتأويل ذهب إليه ، وشبهة دخلت عليه في قول الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [ التوبة : 103 ] ، وكان دخول الشبهة عليهم فيها من وجهين :
أحدهما : أنه خاطب به رسوله ، فلم يتوجه الخطاب إلى غيره .
والثاني : قوله : إن صلاتك سكن لهم وليست صلوات ابن أبي قحافة سكنا لنا ، فاشتبه تأويلهم على قوم من الصحابة ، وصح فساده لأبي بكر ، فأذعن على قتالهم ، فأشار عليه جماعة بالكف عنهم ، منهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف .
فقال أبو بكر رضي الله عنه : لأن أخر من السماء فتتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق ، لأهون علي مما سمعت منكم يا أصحاب محمد ، والله لا فرقت بين ما جمع الله ، يعني قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] ، عمر رضي الله عنه : علام نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله . فوكز أبو بكر في صدر عمر ، وقال : إليك عني شديدا في الجاهلية خوارا في الإسلام ، وهل هذا إلا من حقها ؟
قال عمر : فشرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر ، فحينئذ أجمعوا معه على قتالهم مع بقائهم على إسلامهم ، ولم يكن الإسلام مانعا من قتالهم : لأنهم منعوا حقا عليهم . والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، أرأيتم لو سألوا ترك الصلاة ، أرأيتم لو سألوا ترك الصيام ، أرأيتم لو سألوا ترك الحج ، أرأيتم لو سألوا شرب الخمر ، أرأيتم لو سألوا الزنى ، فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت . [ ص: 110 ] فقال له
وكذلك حال علي عليه السلام في قتال من قاتل من المسلمين .
ولا يكون كف عثمان وتسليم الحسن رضي الله عنهما حجة عليه : لأن لكل وقت حكما ، ولكل مجتهد رأيا .
ولا يمنع إسلام مانعي الزكاة في عهد أبي بكر من إطلاق اسم الردة عليهم لغة ، وإن لم ينطلق عليهم شرعا : لأنه لسان عربي ، والردة في لسان العرب الرجوع ، كما قال تعالى : فارتدا على آثارهما قصصا [ الكهف : 64 ] ، أي : رجعا ، فانطلق اسم الردة على من رجع عن الزكاة كانطلاقه على من رجع عن الدين .
فهذا أحد الأمرين في مراد الشافعي بهذه المسألة .