مسألة : قال
الشافعي : " وإن شهدوا متفرقين قبلتهم إذا كان الزنا واحدا " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح ، لا فرق في الشهادة على الزنا بين أن يفرق الشهود في أدائها أو يجتمعوا عليها .
وقال
أبو حنيفة ومالك : تسمع شهادتهم إن اجتمعوا عليها في مجلس واحد ، ويحد المشهود عليه ، ولا تقبل
nindex.php?page=treesubj&link=10300إن افترقوا في الأداء ، فشهد بعضهم في مجلس وشهد آخرون منهم في مجلس آخر ، ولا يجب بشهادتهم حد : استدلالا بأن الشهادة على الزنا تكون بلفظ القذف . فإن تكامل فيها العدد خرجت عن حكم القذف إلى الشهادة . وإن لم يتكامل العدد ، استقر فيها حكم القذف ولم تكن شهادة . فوجب أن يكون المجلس معتبرا في استقرار حكمها : لأن للمجلس تأثيرا في استقرار الأحكام كالقبول بعد البدل في العقود ، وكالقبض في عقد التصرف .
قالوا : ولأن الشهادة فيه معتبرة بكمال الأداء وكمال العدد ، فلما كان تفريق الأداء في مجلس ذكر في أحدهما أنه زنا ، ووصف في الآخر الزنا يمنع من صحة الشهادة وجب أن يكون تفريق العدد في مجلسين مانعا من صحة الشهادة .
قالوا : ولأن
nindex.php?page=treesubj&link=10314_10283حد الزنا ثبت بالإقرار تارة وبالشهادة أخرى ، ثم تغلظ الإقرار من وجهين : تصريح بصفة ، وعدد في تكراره ، وجب أن تتغلظ الشهادة فيه من وجهين : زيادة عدد ، واجتماع في مجلس .
ودليلنا : قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية [ النور : 4 ]
ولم يفرق فكان على عمومه ، ولأن كل شهادة يجب الحكم بها إذا تكامل عددها
[ ص: 229 ] في مجلس ، وجب الحكم بها إذا تكامل عددها في مجلسين ، ووجب الحكم إذا تكامل عددها في مجالس قياسا على سائر الشهادات . ولأنه زمان لا يعتبر في شهادة غير الزنا ، فوجب أن لا يعتبر في غير الزنا كالموالاة : ولأن شهادة الحقوق نوعان : لله ، وللآدميين وليست يعتبر في واحد منهما اجتماع الشهود ، فوجب أن يكون الزنا ملحقا بأحدهما ، ولأن شهادة الواحد إذا تقدمت لم يخل من أن يكون فيها شاهدا ، أو قاذفا . فإن كان شاهدا لم يصر قاذفا بتأخر غيره ، وإن كان قاذفا لم يصر شاهدا بشهادة غيره ، ولأنه ليس في
nindex.php?page=treesubj&link=10300تفرق الشهادة في مجلسين أكثر من تباعد ما بين الزمانين ، وهذا لا يؤثر في الشهادة ، كما لو استدام المجلس في جميع اليوم فشهد بعضهم في أوله ، وبعضهم في آخره . ولأن قولهم يفضي إلى رد الشهادة إذا تفرقت في الزمان القصير ، وهو إذا قام الحاكم من مجلسه بين الشهادتين قدر الصلاة وإلى إمضائها إذا تفرقت في الزمان الطويل . وهو إذا استدام مجلسه في جميع النهار فشهد بعضهم في صباحه وشهد بعضهم في مسائه ، وما أفضى إلى هذا كان اعتباره مطرحا ، ولأن تفرق الشهود أنفى للريبة وأمنع من التواطؤ والمتابعة : لأن الاسترابة بالشهود تقتضي تفريقا ليختبر بالتفريق رتبتهم ، فكان افتراقهم أولى أن يعتبر من اجتماعهم .
فأما استدلالهم بأنه في صورة القاذف وإن لم يكمل العدد : فهو أنه لو كان قاذفا لما جاز أن يكمل به العدد : لأن شهادة القاذف غير مقبولة ، وما ادعوه من تأثير المجلس في العقود فليس يصح : لأن التأثير فيها يكون بالتراخي ، وإن كان المجلس واحدا ، والقبض بالصرف هو المعتبر بالمجلس ، وليس القبض قولا فيعتبر به الشهادة .
وأما استدلالهم بتفرق الأداء فالمعنى فيه : أنه لو تفرق في مجلس واحد لم يتم ، فكذلك في مجلسين . والعدد لو تفرق في مجلس واحد تم ، فكذلك في مجلسين .
وأما اعتبارهم بتغليظ الإقرار من وجهين فغير مسلم : لأنه لا يتغلظ عندنا بالتكرار وإن تغلظ عندهم ، ثم لا يستويان على قولهم : لأنهم يعتبرون تكرار الإقرار في مجالس فإن تكرر في مجلس لم يتم ، ويعتبرون أعداد الشهادة في مجلس ، وإن كان في مجالس لم يتم . فلم يسلم لهم معنى الجمع فبطل .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ شَهِدُوا مُتَفَرِّقِينَ قَبِلْتُهُمْ إِذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا فَرْقَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بَيْنَ أَنْ يُفَرَّقَ الشُّهُودُ فِي أَدَائِهَا أَوْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهَا .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُقْبَلُ
nindex.php?page=treesubj&link=10300إِنِ افْتَرَقُوا فِي الْأَدَاءِ ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَلَا يَجِبُ بِشَهَادَتِهِمْ حَدٌّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا تَكُونُ بِلَفْظِ الْقَذْفِ . فَإِنْ تَكَامَلَ فِيهَا الْعَدَدُ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إِلَى الشَّهَادَةِ . وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلِ الْعَدَدُ ، اسْتَقَرَّ فِيهَا حُكْمُ الْقَذْفِ وَلَمْ تَكُنْ شَهَادَةً . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْلِسُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا : لِأَنَّ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ كَالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ فِي الْعُقُودِ ، وَكَالْقَبْضِ فِي عَقْدِ التَّصَرُّفِ .
قَالُوا : وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ مُعْتَبِرَةٌ بِكَمَالِ الْأَدَاءِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ ، فَلَمَّا كَانَ تَفْرِيقُ الْأَدَاءِ فِي مَجْلِسٍ ذُكِرَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ زِنًا ، وَوَصِفَ فِي الْآخَرِ الزِّنَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيقُ الْعَدَدِ فِي مَجْلِسَيْنِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ .
قَالُوا : وَلِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10314_10283حَدَّ الزِّنَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالشَّهَادَةِ أُخْرَى ، ثُمَّ تَغَلَّظَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَجْهَيْنِ : تَصْرِيحٌ بِصِفَةٍ ، وَعَدَدٌ فِي تَكْرَارِهِ ، وَجَبَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : زِيَادَةُ عَدَدٍ ، وَاجْتِمَاعٌ فِي مَجْلِسٍ .
وَدَلِيلُنَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ [ النُّورِ : 4 ]
وَلَمْ يُفَرِّقْ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا
[ ص: 229 ] فِي مَجْلِسٍ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجْلِسَيْنِ ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ إِذَا تَكَامَلَ عَدَدُهَا فِي مَجَالِسَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ . وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ غَيْرِ الزِّنَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي غَيْرِ الزِّنَا كَالْمُوَالَاةِ : وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ : لِلَّهِ ، وَلِلْآدَمِيِّينَ وَلَيْسَتْ يُعْتَبَرُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزِّنَا مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ إِذَا تَقَدَّمَتْ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَاهِدًا ، أَوْ قَاذِفًا . فَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لَمْ يَصِرْ قَاذِفًا بِتَأَخُّرِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفًا لَمْ يَصِرْ شَاهِدًا بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=10300تَفَرُّقِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ تَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ ، وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ ، كَمَا لَوِ اسْتَدَامَ الْمَجْلِسُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِهِ ، وَبَعْضُهُمْ فِي آخِرِهِ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إِلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ ، وَهُوَ إِذَا قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْرَ الصَّلَاةِ وَإِلَى إِمْضَائِهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ . وَهُوَ إِذَا اسْتَدَامَ مَجْلِسُهُ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي صَبَاحِهِ وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ فِي مَسَائِهِ ، وَمَا أَفْضَى إِلَى هَذَا كَانَ اعْتِبَارُهُ مُطَّرَحًا ، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ وَأَمْنَعُ مِنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُتَابَعَةِ : لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ بِالشُّهُودِ تَقْتَضِي تَفْرِيقًا لِيَخْتَبِرَ بِالتَّفْرِيقِ رُتْبَتَهُمْ ، فَكَانَ افْتِرَاقُهُمْ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ .
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْعَدَدَ : فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاذِفًا لَمَا جَازَ أَنْ يُكْمِلَ بِهِ الْعَدَدَ : لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ ، وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ فَلَيْسَ يَصِحُّ : لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِيهَا يَكُونُ بِالتَّرَاخِي ، وَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا ، وَالْقَبْضُ بِالصَّرْفِ هُوَ الْمُعْتَبِرُ بِالْمَجْلِسِ ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ قَوْلًا فَيَعْتَبِرُ بِهِ الشَّهَادَةَ .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَفَرُّقِ الْأَدَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتِمَّ ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ . وَالْعَدَدُ لَوْ تَفَرَّقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَمَّ ، فَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِتَغْلِيظِ الْإِقْرَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ : لِأَنَّهُ لَا يَتَغَلَّظُ عِنْدَنَا بِالتَّكْرَارِ وَإِنْ تَغَلَّظَ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ لَا يَسْتَوِيَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي مَجَالِسَ فَإِنْ تَكَرَّرَ فِي مَجْلِسٍ لَمْ يَتِمَّ ، وَيَعْتَبِرُونَ أَعْدَادَ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ لَمْ يَتِمَّ . فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ مَعْنَى الْجَمْعِ فَبَطُلَ .