مسألة : قال
الشافعي : " ومن
nindex.php?page=treesubj&link=10429_10496رجع بعد تمام الشهادة لم يحد غيره . وإن لم تتم شهود الزنا أربعة ، فهم قذفة يحدون " .
قال
الماوردي : هاتان مسألتان ، والأولى فيهما تقديم للثانية : لأنها أصل للأولى . وهو أن يشهد بالزنا أقل من أربعة ، إما أن يكونوا ثلاثة ، أو اثنين ، أو واحدا ، الحكم فيهم سواء ، وسواء حضر الرابع فتوقف أو لم يحضر ، فهل يصير الشهود إذا لم يكمل عددهم قذفة يحدون أم لا ؟ على قولين :
[ ص: 231 ] أحدهما : - وهو الأظهر المنصوص عليه في أكثر كتبه من قديم وجديد وهو قول
أبي حنيفة - أنهم قد صاروا قذفة يحدون .
والقول الثاني : مخرج من كلام علقه في كتاب الشهادات : أنه لا حد عليهم ، ويكونوا على عدالتهم ، ولا يصيروا قذفة بنقصان عددهم ، فإذا قيل بالأول : أنهم قد صاروا قذفة يحدون . فدليله : قصة
المغيرة بن شعبة ، وكان أميرا على
البصرة من قبل
عمر ، وكان منكاحا ، فخلا بامرأة في دار كان ينزلها وينزل معه فيها
أبو بكرة ،
ونافع ،
وشبل بن معبد ،
ونفيع ،
وزياد بن أمية ، وكان جميعهم من
ثقيف ، فهبت ريح فتحت الباب عن
المغيرة ، فرأوه على بطن المرأة يفعل بها ما يفعل الزوج بزوجته ، فلما أصبحوا تقدم
المغيرة في المسجد ليصلي فقال له
أبو بكرة : تنح عن مصلانا . وانتشرت القصة ، فبلغت
عمر ، فكتبوا وكتب أن يرفعوا جميعا إليه ، فلما قدموا عليه حضروا مجلسه ، بدأ
أبو بكرة فشهد بالزنا ووصفه ، فقال
علي للمغيرة : ذهب ربعك . ثم شهد بعده نافع ، فقال
علي للمغيرة : ذهب نصفك . ثم شهد بعده
شبل بن معبد ، فقال
علي للمغيرة : ذهب ثلاثة أرباعك . وقال
عمر : أود الأربعة . وأقبل
زياد ليشهد ، فقال له
عمر : إيها يا سرح العقاب ، قل ما عندك أو أرجو أن لا يفضح الله على يديك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتنبه
زياد فقال : رأيت أرجلا مختلفة ، وأنفاسا عالية ، ورأيته على بطنها ، وأن رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار ، ولا أعلم ما وراء ذلك . فقال
عمر : الله أكبر ، يا أخي قم فاجلد هؤلاء الثلاثة ، فجلدوا جلد القذف ، وقال
عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك . فقال : والله لا أتوب ، والله لقد زنا ، والله لقد زنا . فهم
عمر بجلده ، فقال
علي : إن جلدته ، رجمت صاحبكما . وفي هذا القول منه تأويلان :
أحدهما : إن كان هذا القول منه غير الأول ، فقد كملت الشهادة فارجم صاحبك ، وإن كان هو الأول فقد جلد فيه .
والثاني : معناه أنك إن جلدته بغير استحقاق فارجم صاحبك بغير استحقاق ، ولم يخالف في هذه القصة أحد من الصحابة ، فصارت إجماعا . فاعترض طاعن على هذه القصة من ثلاثة أوجه :
أحدها : إن قال : لما عرض
عمر لزياد أن لا يستوفي شهادته ، وفيها إسقاط لحق الله تعالى وإضاعة لحدوده .
والجواب عنه : أن
عمر رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعريض بما يدرأ به الحدود ، فإنه عرض
لماعز حين أقر عنده بالزنا فقال : "
لعلك قبلت ، لعلك لامست " ليرجع عن إقراره ، كذلك فعل
عمر في تعريضه للشاهد أن لا يستكمل الشهادة : لأن جنب المؤمن حمى .
[ ص: 232 ] والاعتراض الثاني : قال : لم عرض
عمر بما أسقط به الحد عن
المغيرة ، وهو واحد وأوجب به الحد على الشهود وهم ثلاثة ؟ فقيل : عنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه لما تردد الأمر بين قتل وجلد ، كان إسقاط القتل بالجلد أولى من إسقاط الجلد بالقتل .
والثاني : أنه لما خالف الشهود ما ندبوا إليه من ستر العورات ، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924229هلا سترته بثوبك يا هزال " كانوا بالتغليظ أحق من غيرهم .
والثالث : أن رجم
المغيرة لم يجب إلا أن تتم شهادتهم ، وجلدهم قد وجب ما لم تتم شهادتهم ، فكان إسقاط ما لم يجب أولى من إسقاط ما وجب .
الاعتراض الثالث : إن قالوا : إن الصحابة عدول ، وهذه الصفة لا تخلو من جرح بعضهم وفسقه : لأنهم إن صدقوا في الشهادة
فالمغيرة زان ، والزنا فسق ، وإن كذبوا فهم قذفة ، والقذف فسق . قيل : هذه الصفة لا تمنع من عدالة جميعهم ، والخلاص من قدح يعود على بعضهم ، أما
المغيرة وهو المشهود عليه فقد قيل : إنه نكحها سرا فلم يذكروه
لعمر : لأنه كان لا يرى نكاح السر ويحد فيه ، وكان يتبسم عند الشهادة عليه ، فقيل له في ذلك فقال : لأن أعجب مما أريد أن أفعله بعد كمال شهادتهم . فقيل : وما تفعل ؟ قال : أقيم البينة أنها زوجتي .
وأما الشهود فلأنهم شهدوا بظاهر ما شاهدوا ، فسلم جماعتهم من جرح وتفسيق ، ولذلك أجمع المسلمون على قبول أخبارهم في الدين ، وأثبتوا أحاديثهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن كان
أبو بكرة إذا أتي بكتاب لم يشهد فيه ، وقال : إن القوم فسقوني . وكان هذا القول منه ثقة بنفسه ، فدلت هذه القصة من
عمر رضي الله عنه على وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=10496الحد على الشهود إذا لم يكمل عددهم ، ويدل عليه من طريق المعنى شيئان :
أحدهما : أن
nindex.php?page=treesubj&link=10481_10283الشهادة بالزنا أغلظ من لفظ القذف بالزنا ، لأنه يقول في القذف : زنيت . ولا يصف الزنا ، ويقول في الشهادة : أشهد أنك زنيت ويصف الزنا ، والقذف لا يوجب حد المقذوف ، والشهادة توجب حد المشهود عليه ، ولما كانت الشهادة أغلظ من القذف من هذين الوجهين كانت بوجوب الحد إذا لم تتم أولى .
والثاني : أن سقوط الحد عنهم ذريعة إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أن يخرجوه مخرج الشهادة حتى لا يحدوا ، وفي حدهم صيانة الأعراض عن توقي القذف فكان أولى وأحق . وإن قيل بالقول الثاني أنهم على عدالتهم لا يحدون ، فدليله : قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 14 ] ففرق بين القذفة والشهود ، فدل على افتراقهم في الحدود ، ولأن القذف معرة ، والشهادة إقامة حق ، ولذلك إذا أكثر القذفة حدوا ، ولو كثر الشهود لم يحدوا ، فاقتضى ذلك وقوع الفرق بينهم إذا قلوا ، كما وقع الفرق بينهم إذا كثروا ، ولأن حكم كل
[ ص: 233 ] واحد من الشهود في الجرح والتعديل معتبر بنفسه لا بغيره ، فلم يجز أن يكون تأخير غيره عن الشهادة موجبا لفسقه ، ولأن حد الشهود - إذا لم يكملوا - مفض إلى كتم الشهادة : خوفا أن يحدوا إن لم يكملوا ، فتكتم حقوق الله تعالى ولا تؤدى ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] ، فهذا توجيه القولين فيهم إذا نقص عددهم ، وكملت في العدالة أوصافهم .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعُيُّ : " وَمَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=10429_10496رَجَعَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ . وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً ، فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : هَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ ، وَالْأُولَى فِيهِمَا تَقْدِيمٌ لِلثَّانِيَةِ : لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلْأُولَى . وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً ، أَوِ اثْنَيْنِ ، أَوْ وَاحِدًا ، الْحُكْمُ فِيهِمْ سَوَاءٌ ، وَسَوَاءٌ حَضَرَ الرَّابِعُ فَتَوَقَّفَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ، فَهَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ إِذَا لَمْ يَكْمُلُ عَدَدُهُمْ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
[ ص: 231 ] أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ مِنْ قَدِيمٍ وَجَدِيدٍ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ عَلَّقَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ : أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَيَكُونُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ ، وَلَا يَصِيرُوا قَذَفَةً بِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ ، فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ : أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ . فَدَلِيلُهُ : قِصَّةُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى
الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ
عُمَرَ ، وَكَانَ مِنْكَاحًا ، فَخَلَا بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ كَانَ يَنْزِلُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهُ فِيهَا
أَبُو بَكَرَةَ ،
وَنَافِعٌ ،
وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ،
وَنُفَيْعٌ ،
وَزِيَادُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِنْ
ثَقِيفٍ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَتَحَتِ الْبَابَ عَنِ
الْمُغِيرَةِ ، فَرَأَوْهُ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَفْعَلُ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَقَدَّمَ
الْمُغِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ
أَبُو بَكَرَةَ : تَنَحَّ عَنْ مُصَلَّانَا . وَانْتَشَرَتِ الْقِصَّةُ ، فَبَلَغَتْ
عُمَرَ ، فَكَتَبُوا وَكَتَبَ أَنْ يُرْفَعُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ حَضَرُوا مَجْلِسَهُ ، بَدَأَ
أَبُو بَكَرَةَ فَشَهِدَ بِالزِّنَا وَوَصَفَهُ ، فَقَالَ
عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ رُبُعُكَ . ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ نَافِعٌ ، فَقَالَ
عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ نِصْفُكَ . ثُمَّ شَهِدَ بَعْدَهُ
شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ ، فَقَالَ
عَلِيٌّ لِلْمُغِيرَةِ : ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِكَ . وَقَالَ
عُمَرُ : أَوَدُّ الْأَرْبَعَةَ . وَأَقْبَلَ
زِيَادٌ لِيَشْهَدَ ، فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ : إِيهًا يَا سَرْحَ الْعُقَابِ ، قُلْ مَا عِنْدَكَ أَوْ أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَتَنَبَّهَ
زِيَادٌ فَقَالَ : رَأَيْتُ أَرْجُلًا مُخْتَلِفَةً ، وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً ، وَرَأَيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا ، وَأَنَّ رِجْلَيْهَا عَلَى كَتِفَيْهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ ، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ . فَقَالَ
عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، يَا أَخِي قُمْ فَاجْلِدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ، فَجُلِدُوا جَلْدَ الْقَذْفِ ، وَقَالَ
عُمَرُ لِأَبِي بَكَرَةَ : تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ ، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا ، وَاللَّهِ لَقَدْ زَنَا . فَهَمَّ
عُمَرُ بِجَلْدِهِ ، فَقَالَ
عَلِيٌّ : إِنْ جَلَدْتَهُ ، رَجَمْتُ صَاحِبَكُمَا . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ غَيْرَ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ جُلِدَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنْ جَلَدْتَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَصَارَتْ إِجْمَاعًا . فَاعْتَرَضَ طَاعِنٌ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : إِنْ قَالَ : لَمَّا عَرَّضَ
عُمَرُ لِزِيَادٍ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ شَهَادَتَهُ ، وَفِيهَا إِسْقَاطٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِضَاعَةٌ لِحُدُودِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْرِيضِ بِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحُدُودَ ، فَإِنَّهُ عَرَّضَ
لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ : "
لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ ، لَعَلَّكَ لَامَسْتَ " لِيَرْجِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ ، كَذَلِكَ فَعَلَ
عُمَرُ فِي تَعْرِيضِهِ لِلشَّاهِدِ أَنْ لَا يَسْتَكْمِلَ الشَّهَادَةَ : لِأَنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حِمًى .
[ ص: 232 ] وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : قَالَ : لِمَ عَرَّضَ
عُمَرُ بِمَا أَسْقَطَ بِهِ الْحَدَّ عَنِ
الْمُغِيرَةِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَأَوْجَبَ بِهِ الْحَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ؟ فَقِيلَ : عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ قَتْلٍ وَجَلْدٍ ، كَانَ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ بِالْجَلْدِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الْجَلْدِ بِالْقَتْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشُّهُودُ مَا نُدِبُوا إِلَيْهِ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَاتِ ، وَخَالَفُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924229هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ " كَانُوا بِالتَّغْلِيظِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَالثَّالِثِ : أَنَّ رَجْمَ
الْمُغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ، وَجَلْدُهُمْ قَدْ وَجَبَ مَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ ، فَكَانَ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ مَا وَجَبَ .
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : إِنْ قَالُوا : إِنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ جَرْحِ بَعْضِهِمْ وَفِسْقِهِ : لِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَقُوا فِي الشَّهَادَةِ
فَالْمُغِيرَةُ زَانٍ ، وَالزِّنَا فِسْقٌ ، وَإِنْ كَذَبُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ . قِيلَ : هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ ، وَالْخَلَاصُ مِنْ قَدْحٍ يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ ، أَمَّا
الْمُغِيرَةُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ نَكَحَهَا سِرًّا فَلَمْ يَذْكُرُوهُ
لِعُمَرَ : لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى نِكَاحَ السِّرِّ وَيَحُدُّ فِيهِ ، وَكَانَ يَتَبَسَّمُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَأَنْ أَعْجَبَ مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بَعْدَ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ . فَقِيلَ : وَمَا تَفْعَلُ ؟ قَالَ : أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا زَوْجَتِي .
وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِظَاهِرِ مَا شَاهَدُوا ، فَسَلِمَ جَمَاعَتُهُمْ مِنْ جَرْحٍ وَتَفْسِيقٍ ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَأَثْبَتُوا أَحَادِيثَهُمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ
أَبُو بَكَرَةَ إِذَا أُتِيَ بِكِتَابٍ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ ، وَقَالَ : إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّقُونِي . وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وُجُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=10496الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى شَيْئَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10481_10283الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا ، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَذْفِ : زَنَيْتُ . وَلَا يَصِفُ الزِّنَا ، وَيَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ : أَشْهَدُ أَنَّكَ زَنَيْتُ وَيَصِفُ الزِّنَا ، وَالْقَذْفُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْمَقْذُوفِ ، وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ حَدَّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْقَذْفِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَسَرُّعِ النَّاسِ إِلَى الْقَذْفِ إِذَا أَرَادُوهُ أَنْ يُخْرِجُوهُ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُحَدُّوا ، وَفِي حَدِّهِمْ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ عَنْ تَوَقِّي الْقَذْفِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ . وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَا يُحَدُّونَ ، فَدَلِيلُهُ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [ النُّورِ : 14 ] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَذَفَةِ وَالشُّهُودِ ، فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمْ فِي الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَرَّةٌ ، وَالشَّهَادَةُ إِقَامَةُ حَقٍّ ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَكْثَرَ الْقَذْفَةُ حُدُّوا ، وَلَوْ كَثُرَ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدُّوا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ إِذَا قَلُّوا ، كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ إِذَا كَثُرُوا ، وَلِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ
[ ص: 233 ] وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ ، وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّهُودِ - إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا - مُفْضٍ إِلَى كَتْمِ الشَّهَادَةِ : خَوْفًا أَنْ يُحُدُّوا إِنْ لَمْ يُكْمِلُوا ، فَتُكْتَمُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُؤَدَّى ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ الْبَقَرَةِ : 283 ] ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ ، وَكَمُلَتْ فِي الْعَدَالَةِ أَوْصَافُهُمْ .