ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش مؤتة ، وهي بأرض الشام بأدنى البلقاء ، والبلقاء دون دمشق في جمادى الأولى .
وسببها أنه بعث الحارث بن عمير الأزدي رسولا بكتاب إلى ملك بصرى ، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني ، فقتله ولم يقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول غيره ، واشتد عليه وندب الناس ، فأسرعوا وعسكروا بالجرف ، وهم ثلاثة آلاف ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : زيد بن حارثة ، فإن قتل ، فجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، فإن قتل ، فليرتض المسلمون منهم رجلا . أمير الناس
وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، ويدعوا من هناك إلى الإسلام ، فإن استجابوا وإلا استعانوا بالله وقاتلوهم ، وخرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع ، فلما ودعه أمراؤه ، أتاه عبد الله بن رواحة مودعا فقال وهو يبكي والله ما بي حب للدنيا ، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وذكر النار فقال : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ مريم : 71 ] . فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون " صحبكم الله ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين " فقال عبد الله بن رواحة :
[ ص: 60 ]
لكني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
أرشدك الله من غاز وقد رشدا
أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه مالي أراك تكرهين الجنه
قد طالما قد كنت مطمئنه هل أنت إلا نطفة في شنه
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
يا معشر المسلمين إلي إلي ، وركز الراية حتى اجتمعوا إليها ، ثم قال لهم : اصطلحوا على رجل منكم فقالوا : أنت لها ، فقال ما أنا بفاعل ، فاصطلحوا على خالد بن الوليد ، فأخذ الراية ، ودافع القوم عن المسلمين حتى انصرف الناس ، ورفعت الأرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نظر معترك القوم ، فأمر فنودي بالصلاة فصعد المنبر ، وقال : ، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل أيها الناس باب خير باب خير أخبركم عن جيشكم هذا الغازي زيد ، [ ص: 61 ] شهيدا ، واستغفر له ، ثم أخذ اللواء جعفر ، فشد على القوم حتى قتل شهيدا ، واستغفر له ، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا ، واستغفر له ، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ، ولم يكن من الأمراء ، وهو أمر نفسه ، ولكنه سيف من سيوف الله ، فباء بنصر ، فسمي يومئذ سيف الله ، ثم خرج من الغد لصلاة الصبح ، وهو يبتسم ، فقال له الناس : قد علم الله ما كان من الوجد فلماذا تبتسم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : أحزنني قتل أصحابي حتى رأيتهم في الجنة إخوانا على سرر متقابلين ، ورأيت في بعضهم إعراضا كأنه كره السيف ، ورأيت جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجا بالدماء مصبوغ القوادم . فسمي يومئذ الطيار ، ولما قدم الناس خرج المسلمون إليهم واستقبلوهم بالجرف ، وجعل قوم يحثون التراب عليهم ، ويقولون : يا فرار فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ليسوا بالفرار ، ولكنهم الكرار إن شاء الله .