فصل : وأما الفصل الثاني في فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أربعة أحوال : فرض الجهاد
أحدها ، وهي أول أحواله : أنه قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة مقامه بمكة منهيا عن القتال ، مأمورا بالصفح والإعراض لقول الله تعالى : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [ الحجر : 94 ] . فيه تأويلان :
أحدهما : أظهر الإنذار بالوحي .
والثاني : فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى .
وفي قوله : وأعرض عن المشركين تأويلان :
أحدهما : أعرض عن قتالهم .
[ ص: 106 ] والثاني : أعرض عن استهزائهم .
والمستهزئون خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الطلاطلة ، أهلكهم الله جميعا قبل بدر ؛ لاستهزائهم برسوله ، وقال تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ الأنعام : 68 ] . وفي خوضهم في آياته تأويلان :
أحدهما : تكذيبهم بالقرآن .
والثاني : تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] . يعني إلى دين ربك وهو الإسلام . بالحكمة . فيها تأويلان :
أحدهما : بالقرآن ، قاله الكلبي .
والثاني : بالرسالة وهو محتمل .
والموعظة الحسنة . فيه تأويلان :
أحدهما : بالقرآن ، من ليس من القول ، قاله الكلبي .
والثاني : بما فيه من الأمر والنهي ، قاله مقاتل .
وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] فيه أربعة تأويلات :
أحدها : بالعفو .
والثاني : بأن توقظ القلوب ولا تسفه العقول .
والثالث : بأن ترشد الخلف ولا تذم السلف .
والرابع : على قدر ما يحتملون
روى نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرنا معاشر الأنبياء أن نعلم الناس على قدر عقولهم ، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن [ آل عمران : 20 ] . وفيه تأويلان : وقال تعالى :
أحدهما : معناه : أسلمت نفسي لامتثال أمر الله .
والثاني : معناه أخلصت قصدي لطاعة الله .
فإن قيل : في أمره عند حجاجهم بأن يقول : " أسلمت وجهي لله " عدول عن جوابهم وتسليم بحجاجهم .
قيل : فيه جوابان :
[ ص: 107 ] أحدهما : أنه أمره بذلك إخبارا لهم بمعتقده ، ثم هو في الجواب لهم والاحتجاج عليهم على ما يقتضيه السؤال .
والثاني : أنهم ما حاجوه طلبا للحق فيلزمه الجواب ، وإنما حاجوه إظهارا للعناد ، فجاز له الإعراض عنهم بما أمره أن يقوله لهم .
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا مدة مقامه بمكة غير مأذون له في القتال : لأنه كان يضعف عنه وكانت رسالته مختصة بأمرين :
أحدهما : إنذار المشركين .
والثاني : ما يشرعه من أحكام الدين .
ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فصارت دار إسلام ، ظهرت له بها قوة ، فأذن الله تعالى أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه فقال : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقرة : 190 ] .
وقال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد : هذه أول آية نزلت بالمدينة في قتال المشركين ، أمر الله فيها رسوله والمسلمين بقتال من قاتلهم ، والكف عمن كف عنهم . وفي قوله تعالى : ولا تعتدوا ، تأويلان :
أحدهما : لا تعتدوا بقتال من لم يقاتلكم .
والثاني : لا تعتدوا بالقتال على غير الدين فكان هذا قتال دفع ، وهي الحال الثانية من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجازي ولا يبتدئ فلما مضت به مدة ازدادت فيها قوته وكثر فيها عدده نقله الله تعالى إلى حالة ثالثة أذن له فيها بقتال من رأى إذنا خيره فيه ولم يفرضه عليه ، فقال تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ الحج 39 ] . فلم يقطع الإخبار بنصرهم : لأنه لم يحتم فرض الجهاد عليهم ، ولذلك لما فرض الجهاد قطع بنصرهم ، فقال : ولينصرن الله من ينصره [ الحج : 45 ] . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخيرا بين الكف والقتال ، فأسرى سرايا وغزا بدرا وهو في الجهاد مخير ، ولذلك خرج ببعض أصحابه ، وكان من أمره بالجهاد معه يجب عليه إجابته لما أوجبه الله من طاعة رسوله في أوامره ، وإن لم يكن الجهاد فرضا ، لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ الأنفال : 24 ] . وفيه تأويلان :
أحدهما : لما يصلحكم ، فعبر عن الصلاح بالحياة .
والثاني : لما تدوم به حياتكم في الجنة بالخلود فيها فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا التخيير حتى قوي أمره بوقعة بدر ، وكثر جمعه ، وقويت نفوس أصحابه بما شاهدوه من [ ص: 108 ] نصر الله تعالى به ولهم وحدوث القوة بعد ضعفهم كما قال تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فنقله إلى الحالة الرابعة التي هي غاية أحواله ، فحينئذ فرض الله تعالى الجهاد عليه وعليهم فقال فيه : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ التوبة : 73 ] .
وجهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بالوعظ إن كتموا ، وبالسيف إن أعلنوا .
وفي قوله : واغلظ عليهم ، تأويلان :
أحدهما : لا تبر لهم قسما .
والثاني : لا تقبل لهم عذرا .
، وقال للكافة : وجاهدوا في الله حق جهاده [ الحج : 78 ] . وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه الصبر على الشهادة .
والثاني : أنه طلب النكاية في العدو دون الغنيمة .
وروى أبو مراوح الغفاري ، أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيل الله ، قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ، ثم بين الله تعالى فرضه عليهم فقال : عن كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ البقرة : 216 ] . وكتب : بمعنى : فرض ، كما قال : كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] أي : فرض . وفي قوله تعالى : وهو كره لكم تأويلان :
أحدهما : وهو مكروه في نفوسكم .
والثاني : وهو شاق على أبدانكم ، وهل ذلك قبل التعبد أو بعده على وجهين :
ثم قال : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم [ البقرة : 216 ] . وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه على العموم ، قد تكرهون ما تكون عواقبه خيرا لكم وتحبون ما تكون عواقبه شرا : لأن الله تعالى يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون .
والثاني : أنه على الخصوص في القتال على أن تكرهوه وهو خير لكم في الدنيا بالظفر والغنيمة ، وفي الآخرة بالأجر والثواب .
وعسى أن تحبوا الموادعة والكف وهو شر لكم في الدنيا بالظهور عليكم ، وفي الآخرة بنقصان أجوركم ، والله يعلم ما فيه مصلحتكم ، وأنتم لا تعلمون ، فثبت بهذه الآية فرض الجهاد .