قال الماوردي : وهو كما ذكر يجوز أن ، إذا علم أنه يفضي إلى الظفر بهم ، ومنع يقطع على أهل الحرب نخلهم وشجرهم ، ويستهلك عليهم زرعهم وثمرهم أبو حنيفة من ذلك استدلالا بقول الله تعالى : ولا تعثوا في الأرض مفسدين [ البقرة : 60 ] . وهذا فساد ، ولما روي أن أبا بكر بعث جيشا إلى الشام ونهاهم عن قطع شجرها ، ولأنها قد تصير دار إسلام ، فيصير ذلك غنيمة للمسلمين .
ودليلنا ما روي بني النضير في حصونهم بالبويرة حين نقضوا [ ص: 185 ] عهدهم فقطع المسلمون عليهم عددا من نخلهم ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراهم إما بأمره وإما لإقراره . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر
واختلف في : فقيل : لإضرارهم بها ، وقيل : لتوسعة موضعها لقتالهم فيه ، فقالوا سبب قطعها وهم يهود أهل الكتاب : يا محمد ، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح ، فمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل ؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي :
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم على عهد موسى ولم يصدف وأنتم رعاء لشاء عجاف
بسهل تهامة والأخيف ترون الرعاية مجدا لكم
لدى كل دهر لكم مجحف فيا أيها الشاهدون انتهوا
عن الظلم والمنطق المؤنف لعل الليالي وصرف الدهور
يدركن عن العادل المنصف بقتل النضير وإجلائها
وعقر النخيل ولم تخطف
هم أوتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة نور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم بتصديق الذي قال النذير
فهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
أحدهما : أنها العجوة من النخل : لأنها أم الإناث ، كما أن العتق أم الفحول ، وكانتا مع نوح في السفينة ، ولذلك شق عليهم قطعها .
والثاني : أنها الفسيلة : لأنها ألين من النخلة .
والثالث : أنها جميع النخل والشجر للينها بالحياة .
فإن قيل : فهذا منسوخ بقوله تعالى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [ الأعراف : 56 ] . فعنه جوابان :
أحدهما : أنه يفضي إلى الظفر بالمشركين ، وقوة الدين كان صلاحا ، ولم يكن فسادا ، وفي الآية تأويلان :
أحدهما : ولا تفسدوا في الأرض بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان .
والثاني : لا تفسدوا في الأرض بالجور بعد إصلاحها بالعدل .
[ ص: 186 ] والجواب الثاني : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فعل بعد بني النضير مثل ما فعل بهم ، فقطع على أهل خيبر نخلا ، وقطع على أهل الطائف وهي آخر غزواته التي قاتل فيها لزوما على بقاء الحكم في قطعها وأنه غير منسوخ ، ولأن حرمة النفوس أعظم وقتلها أغلظ ، فلما جاز قتل نفوسهم على الكفر ، كان قطع نخلهم وشجرهم عليهم أولى ، فأما استدلالهم بجوابه ما ذكرنا .