فصل : فأما المجوس ، فلم يبق لهم في شريعة الإسلام كتاب ، واختلف هل كان لهم ، فذكر كتاب الشافعي - فيما نقله المزني هاهنا - أنهم أهل كتاب ، وقد نص عليه في كتاب الأم ، وقال في موضع آخر : لا كتاب لهم ، وقد علق القول في موضع ثالث ، فاختلف أصحابه في مذهبه ، فذهب البغداديون إلى أنه على قولين بحسب اختلاف نصه في الموضعين :
أحدهما : أنهم أهل كتاب .
والثاني : ليس لهم كتاب .
وذهب البصريون إلى أن قوله لم يختلف فيهم ، وحملوا قوله : إنهم أهل كتاب على أن حكمهم حكم أهل الكتاب في إقرارهم بالجزية خاصة ، وقوله : إنه لا كتاب لهم في أنه لا تستباح مناكحهم ، ولا تؤكل ذبائحهم ، وأنهم لا يتلون كتابا لهم .
والذي عليه الجمهور من أصحابنا ما قاله البغداديون من القولين دون ما ذهب إليه البصريون من اختلاف الحالين .
[ ص: 292 ] فإذا قيل : إنه لا كتاب لهم ، وهو مذهب أهل العراق ، فدليله قول الله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، [ الأنعام : 156 ] .
فدل على أنه لا كتاب لمن عداهما ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كاتب كسرى وقيصر ، قال في كتابه إلى قيصر : ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا [ آل عمران : 64 ] .
فجعلهم من أهل الكتاب ، ولم يكتب إلى كسرى بهذا ، وكتب : أسلم تسلم ، فدل على أنه ليس لهم كتاب ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، ولو كان لهم كتاب لاستغنى عن هذا بأن قال هم أهل الكتاب .
ولرواية ابن عباس أن المسلمين بمكة قبل الهجرة كانوا يحبون أن يظهر الروم على فارس : لأنهم أهل كتاب ، وكان مشركو قريش يحبون أن يظهر فارس على الروم : لأنهم غير أهل كتاب ، فلما غلبت فارس الروم سر المشركون ، وقالوا للمسلمين : تزعمون أنكم ستغلبونا : لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم ، والروم أهل كتاب ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فساءه فنزل عليه قوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء [ الروم : 1 - 5 ] .
ففرح المسلمون بذلك ، وبادر أبو بكر إلى كفار قريش ، فأخبرهم بما أنزل الله على رسوله من أن الروم ستغلب فارسا ، وتقامر أبو بكر وأبي بن خلف على هذا بأربع قلائص إلى ثلاث سنين ، وكان القمار يومئذ حلالا ، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر قدر لهم هذه المدة أنكرها ، وقال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : ثقة بالله ورسوله . قال : فكم البضع ؟ قال : ما بين الثلاث إلى العشر . فقال له : زدهم في الخطر ، وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين ، فصارت القلائص ستا ، والأجل خمسا ، فلما أراد أبو بكر الهجرة علق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ثم إن الله تعالى أنجز وعده في غلبة الروم لفارس في عام بدر ، ونصر رسوله على قريش يوم بدر ، وقيل : إنه كان النصران في يوم واحد ، فعلم بهذا الخبر أن الفرس ، وهم المجوس ، لم يكن لهم كتاب ، وأن الروم من النصارى هم أهل الكتاب ، ولأنهم لو كانوا أهل كتاب ، لظهر فيهم كظهور التوراة والإنجيل ، ولجرت عليهم من استباحة مناكحهم ، وأكل ذبائحهم أحكام أهل الكتاب كاليهود والنصارى .
وإذا قلنا بالقول الثاني إنهم أهل كتاب ، فدليلنا رواه الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد بن المرزبان ، عن نصر بن عاصم ، قال : قال فروة بن نوفل الأشجعي [ ص: 293 ] على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ، فقام إليه المستورد ، فأخذ بلبته وقال : يا عدو الله تطعن على أبي بكر ، وعمر وعلى أمير المؤمنين - يعني عليا - وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي - عليه السلام - فقال : اتئدا فجلسنا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه ، وإن ملكهم سكر ، فوقع على ابنته أو أخته ، فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد ، فامتنع منهم فدعا أهل مملكته ، فلما أتوه قال : أتعلمون دينا خيرا من دين آدم ، وقد كان ينكح بنيه من بناته ، وأنا على دين آدم ما نزعت بكم عن دينه ، فبايعوه ، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم ، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم ، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب .
وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر منهم الجزية ، وانتشار هذا مع عدم المخالف فيه إجماع منعقد ، ولأن الاتفاق على جواز أخذ الجزية منهم ، وهي مقصورة على أهل الكتاب تجعلهم من أهل الكتاب الداخلين في قوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ، [ التوبة : 29 ] . ولأنهم قد كانوا ينتسبون إلى نبي مبعوث ، ويتعـبدون بدين مشروع ، ولا يكون ذلك إلا عن كتاب يلتزمون أحكامه ، ويعتقدون حلاله وحرامه .