فصل : فأما لم يخل حال الإمام في عقد هدنته من ثلاثة أقسام : من ارتد بعد الهدنة من المسلمين ولحق بهم
أحدها : أن يكون قد اشترط فيها رد من ارتد إليهم ليؤخذوا برده وتسليمه سواء كان المرتد رجلا أو امرأة ، فإن امتنعوا من رده كان نقضا لهدنتهم .
والقسم الثاني : أن يشترط فيه أن لا يردوا من ارتد إليهم من المسلمين ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرط ذلك لقريش في هدنة الحديبية .
فأما الآن ففي جواز اشتراطه الهدنة قولان :
أحدهما : يجوز اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة الحديبية : ولأن الردة قد أباحت دماءهم فسقط عنا حفظهم .
والقول الثاني : أنه شرط باطل : لأن هدنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية لما بطلت في رد من أسلم بطلت في ترك من ارتد : لأن أحكام الإسلام عليها جارية .
والصحيح عندي من إطلاق هذين القولين أنها تبطل في ترك من ارتد من النساء ولا تبطل في ترك من ارتد من الرجال ، كما بطلت في رد من أسلم من النساء ، ولم تبطل في رد من أسلم من الرجال : لأن النساء ذوات فروج يحرم على الكافر من المرتدة مثل ما يحرم عليه من المسلمة ، ولعل اختلاف القولين محمول على ما ذكرنا من الفرق بين الفريقين .
فإن قلنا بوجوب الرد كان عليهم لتمكين منهم ، وأن لا يذبوا عنهم ، ولم يكن عليهم تسليمهم : لأنهم ما التزموه فإن ذبوا عنهم ، ولم يمكنوا منهم انتقض عهدهم .
وإن قلنا : إن الرد لا يجب عليهم جاز لهم أن يذبوا عنهم ، ولا يمكنوا منهم ، وكانوا فيه على عهدهم .
والقسم الثالث : أن يكون عهد الهدنة مطلقا لم يشترط فيه رد من ارتد إليهم ، ولا إقراره معهم ، فإطلاقه يوجب رد من ارتد منا ، ولا يوجب رد من أسلم منهم : لأن إطلاقه موجب لإمضاء حكم الإسلام فيه : لأن حكمه أعلى ، فكان العقد عليه بمعنى ، فيلزمهم التمكن منهم ، ولا يلزمهم تسليمهم ، فإن ذبوا عنهم ، ولم يمكنوا انتقض عهدهم ، فصارت أحكام المرتد إليهم من هذه الأقسام ثلاثة تنقسم على أحكام ثلاثة :
[ ص: 368 ] أحدها : أنه يجب عليهم تسليم المرتدين .
والثاني : أنه يجب عليهم التمكين من المرتدين ، ولا يجب عليهم تسليمهم .
والثالث : لا يجب عليهم تسليمهم ، ولا التمكين منهم ، فإن لم يجب عليهم تسليمهم ، ولا التمكين منهم وجب عليهم أن يغرموا مهور من ارتد من نسائنا وقيمة من ارتد من عبيدنا وإمائنا ، ولم يجب عليهم عمن ارتد من الرجال الأحرار غرم كما لم يجب عليهم عمن أسلم من أحرارهم غرم : لأن رقبة الحر لا تضمن بغير جناية ، فلو عاد المرتدون إلينا لم نرد على أهل الذمة ما أخذناه من مهور النساء ، ورددنا ما أخذناه من قيمة العبيد : لأنهم قد صاروا لهم بدفع القيمة ملكا ، فلم يصر لنسائهم بدفع المهور أزواجا .
وإن وجب عليهم التمكين منهم ، ولم يجب عليهم تسليمهم لم يجب عليهم غرم مهر ، ولا قيمة مملوك : لأننا إن وصلنا إليهم بالتمكين ، فقد وصلنا إلى حقنا ، وإن لم نصل إليهم مع التمكين فلعجزنا .
وإن وجب عليهم تسليمهم أخذوا به جبرا إذا كان تسليمهم ممكنا ، ولا غرم إذا سلموهم . فإن فات تسليمهم بالموت أغرموا مهور النساء ، وقيمة العبيد والإماء ، وإن تعذر تسليمهم بالهرب ، فإن كان قبل القدرة على ردهم لم يغرموا مهرا ، ولا قيمة ، وإن كان بعد القدرة على ردهم غرموا مهور النساء وقيم العبيد والإماء .
فإذا تقرر هذا ووجب لنا عليهم مهور من ارتد من نسائنا ، وقيم من ارتد من عبيدنا وإمائنا ، ووجب لهم علينا مهور من أسلم من نسائهم وقيم من أسلم من عبيدهم وإمائهم جعلناه قصاصا قولا واحدا : لما في القبض والتسليم من الخطر الشاق ، فإن استويا في القدر برئت منه الذمتان ، وإن فضل لنا رجعت بالفضل عليهم ، وإن فضل لهم دفعنا الفضل إليهم ، ودفع الإمام ما قاصصهم به من بيت المال إلى مستحقيه من المسلمين ، وكتب إليهم أن يدفعوا ما قصصوا به إلى مستحقه من المشركين ، والله أعلم .