فصل : فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حالهم في نقض العهد من أحد أمرين :  
 [ ص: 380 ] إما أن  يكون من جميعهم أو من بعضهم .  
فإن كان من جميعهم ، صار جميعهم حربا ، وليس لواحد منهم أمان على نفس ولا مال      .  
وإن نقضه ، لم يخل حال الناقض من ثلاثة أقسام :  
أحدها : أن يظهر منهم الرضا بنقضه في قول أو فعل ، فينتقض عهدهم بالرضا كما انتقض به عهد المباشرة ، ويصير جميعهم حربا .  
والقسم الثاني : أن يظهر منهم الكراهة لنقضه بقول أو فعل ، فيكونوا على عهدهم ، ولا ينتقض فيهم بنقض غيرهم ، قال الله تعالى :  فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء      [ الأعراف : 165 ] .  
والقسم الثالث : أن يمسكوا عنه ، فلن يظهر منهم رضا به ، ولا كراهة له في قول ، ولا فعل ، فيكون إمساكهم نقضا لعهدهم . قال الله تعالى :  واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة      [ الأنفال : 25 ] . وكذلك كانت سنة الله تعالى في عاقر ناقة  صالح      : باشر عقرها  أحيمر وهو القدار بن سالف   ، وأمسك قومه عنه : فأخذ الله جميعهم بذنبه ، فقال تعالى :  فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها   ولا يخاف عقباها   ، [ الشمس : 14 ، 15 ] . وفي قوله :  فسواها   ثلاثة تأويلات :  
أحدها : فسوى بينهم في الهلاك .  
والثاني : فسوى بهم الأرض .  
والثالث : فسوى بهم من بعدهم من الأمم .  
وفي قوله :  ولا يخاف عقباها   ثلاثة تأويلات :  
أحدها : ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من الهلاك .  
والثاني : ولا يخاف الذي عقرها عقبى ما صنع من عقرها .  
والثالث : ولا يخاف صالح عقبى عقرها : لأنه قد أنذرهم ، ونجاه الله حين أهلكهم ، وقد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود  بني النضير   ، وهم بعضهم بقتله ، فجعله نقضا منهم ، لعهده ، فغزاهم ، وأجلاهم .  
ووادع يهود  بني قريظة   ، فأعان بعضهم  أبا سفيان بن حرب   على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق .  
وقيل : إن الذي أعانه منهم ثلاثة :  حيي بن أخطب   ، وأخوه ، وآخر فنقض به عهدهم ، وغزاهم ، حتى قتل رماتهم ، وسبى ذراريهم .  
وهادن  قريشا   في  الحديبية   ، وكان  بنو بكر   في حلف  قريش   ،  وخزاعة   في حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحارب  بنو بكر   خزاعة   ، وأعان نفر من  قريش   بني بكر   على  خزاعة   ، وأمسك عنهم سائر  قريش   ، فجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقضا لعهد جميعهم ، فسار إليهم      [ ص: 381 ] محاربا ، وأخفى عنهم أثره حتى نزل بهم ، وفتح  مكة   ، فدل على أن الممسك يجري عليه في نقض العهد حكم المباشر ، ولأنه لما كان عقد بعضهم للهدنة موجبا لأمان جميعهم ، وإن أمسكوا كان نقض بعضهم موجبا لحرب جميعهم إذا أمسكوا .  
				
						
						
