[ ص: 382 ] مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " قال الله تعالى : متى ظهر من مهادنين ما يدل على خيانتهم نبذ إليهم عهدهم وأبلغهم مأمنهم ، ثم هم حرب وإما تخافن من قوم خيانة الآية .
قال الماوردي : اعلم أن عقد الهدنة موجب لثلاثة أمور :
أحدها : الموادعة في الظاهر .
والثاني : ترك الخيانة في الباطن .
والثالث : المجاملة في الأقوال والأفعال .
فأما الأول وهو الموادعة في الظاهر فهي الكف عن القتال ، وترك التعرض للنفوس والأموال ، فيجب عليهم للمسلمين مثل ما يجب لهم على المسلمين ، فيستويان فيه ، ولا يتفاضلان ، ويجب عليهم أن يكفوا عن أهل ذمة المسلمين ، ولا يجب على المسلمين أن يكفوا عن أهل ذمتهم إلا أن يدخلوها في عقد مهادنتهم ، فيختلفان في الذمتين ، وإن تساويا في الموادعتين ، فإن عدلوا عن الموادعة إلى ضدها ، فقاتلوا قوما من المسلمين ، أو قتلوا قوما من المسلمين ، أو أخذوا مال قوم من المسلمين : انتقضت هدنتهم بفعلهم ، ولم يفتقر إلى حكم الإمام لنقضها ، وجاز أن يبدأ بقتالهم من غير إنذار ، ويشن عليهم الغارة ، ويهجم عليهم غرة وبياتا ، وجرى ذلك في نقض الهدنة مجرى تصريحهم بالقول أنهم قد نقضوا الهدنة .
وأما الثاني : وهو ترك الخيانة ، فهو أن لا يستسروا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه مثل أن يمايلوا في السر عدوا ، أو يقتلوا في السر مسلما ، أو يأخذوا له مالا ، أو يزنوا بمسلمة ، وهذا مما يستوي الفريقان في التزامه ، فإن خانوا بذلك حكم الإمام : تنتقض هدنتهم ، ولم تنتقض بمجرد خيانتهم ، ويكونوا على الهدنة ، ما لم يحكم الإمام بنقضها لقول الله تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء [ الأنفال : 58 ] .
وقد نقض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدنة قريش بما أسروه من معونة بني بكر على خزاعة ، ويجوز أن يبدأ بقتالهم مجاهرة ، ولا يشن عليهم الغارة والبيات في الابتداء ، ويفعل ذلك في الانتهاء ، فصار هذا القسم مخالفا للقسم الأول من وجهين :
أحدهما : أن الهدنة تنتقض في القسم الأول بالفعل ، وتنتقض في هذا القسم بالحكم .
والثاني : أنه يجوز أن يبتدأ في الأول بشن البيات والغارة ، ويجب أن يبدأ في هذا بقتال المجاهرة .
[ ص: 383 ] ، وإذا خاف خيانة أهل الهدنة جاز أن ينقض هدنتهم . ولو خاف خيانة أهل الذمة لم يجز أن ينقض بها ذمتهم
والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن النظر في عقد الهدنة لنا ، والنظر في عقد الذمة لهم ، ولذلك وجب علينا إجابة أهل الذمة إذا سألوها ، ولم يجب علينا إجابة أهل الهدنة إذا سألوها .
والثاني : أن أهل الذمة تحت القدرة يمكن استدراك خيانتهم ، وأهل الهدنة خارجون عن القدرة لا يمكن استدراك خيانتهم .
والثالث : وهو المجاملة في الأقوال والأفعال ، فهي في حقوق المسلمين أغلظ منها في حقوقهم ، فيلزمهم في حقوق المسلمين عليهم أن يكفوا عن القبيح من القول والفعل ، ويبذلوا لهم الجميل في القول والفعل ، ولهم على المسلمين أن يكفوا عن القبيح في القول والفعل ، وليس عليهم أن يبذلوا لهم الجميل في القول والفعل لقول الله تعالى : ليظهره على الدين كله ، [ التوبة : 33 ] . فإن عدلوا عن الجميل في القول والفعل ، فكانوا يكرمون المسلمين ، فصاروا يستهينون بهم ، وكانوا يضيفون الرسل ، ويصلونهم ، فصاروا يقطعونهم ، وكانوا يعظمون كتاب الإمام ، فصاروا يطرحونه ، وكانوا يزيدونه في الخطاب ، فصاروا ينقصونه ، فهذه ريبة لوقوفها بين شكين : لأنها تحتمل أن يريدوا بها نقض الهدنة ، ويحتمل أن يريدوا بها نقضها ، فيسألهم الإمام عنها ، وعن السبب فيها ، فإن ذكروا عذرا يجوز مثله قبله منهم ، وكانوا على هدنتهم ، وإن لم يذكروا عذرا أمرهم بالرجوع إلى عادتهم من المجاملة في أقوالهم وأفعالهم ، فإن عادوا أقام على هدنتهم ، وإن لم يعودوا نقضها بعد إعلامهم بنقضها ، فصارت مخالفة للقسمين الأولين من وجهين :
أحدهما : أنه لا يعدل عن أحكام الهدنة إلا بعد مسألتهم ، ولا يحكم بنقضها إلا بعد إعلامهم .
فأما ، وكذلك سب القرآن ، فإن كان جهرا ، فهو من القسم الأول ، وإن كان سرا فهو من القسم الثاني . سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما ينتقض به عقد الهدنة ، وعقد الذمة
وقال أبو حنيفة : لا ينتقض بهما عقد الهدنة ، ولا عقد الذمة : احتجاجا لما روي اليهود دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : " السام عليك " ، فقال : " وعليكم " ، فقالت عائشة رضي الله عنها : " يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ فقال : قد قلت : وعليكم ، ثم قال : مهلا يا عائشة ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله " . أن رهطا من
[ ص: 384 ] فلم يجعل ذلك نقضا لعهدهم ، وإن كان سبا ، ولأن قولهم : إن الله ثالث ثلاثة أعظم من شتمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يكن ذلك نقضا لعهدهم ، فهو أولى أن لا يكون نقضا لعهدهم .
ودليلنا : ما روي أن رجلا قال لعبد الله بن عمر : سمعت راهبا يشتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله : " لو سمعته أنا لقتلته ، إنا لم نعطه الأمان على هذا " وليس يعرف له من الصحابة مخالف ، فكان إجماعا : ولأن ما كان شرطا في صحة الإسلام كان شرطا في عقد الأمان : قياسا على ذكر الله : ولأن ما حقن به دم الكافر ، انتقص بشتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالإيمان .
وأما الخبر ، فعنه جوابان :
أحدهما : أنهم قالوه ذما ، ولم يقولوه شتما .
والثاني : أنه كان في ضعف الإسلام ، ولم يكن في قوته .
وأما الجواب عن قولهم : إن الله ثالث ثلاثة ، فمن وجهين :
أحدهما : أنهم قالوه اعتقادا للتعظيم ، وهذا الشتم اعتقادا للتحقير .
والثاني : أنهم يقرون على قولهم ، إن الله ثالث ثلاثة ، فلم ينتقض به عهدهم ، وغير مقرين على شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتقض به عهدهم .