فصل : ما يلزم العمل به من السنة
وأما القسم الثالث فيما يلزم العمل به من السنة : فأقول إن السنة إذا جاءت بحكم فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن تتفرد السنة بذلك الحكم ، أو يقترن بها فيه أصل آخر .
[ القول في ] : السنة إذا انفردت
فإن انفردت بذلك الحكم وجب العمل بها في التزام ذلك الحكم : لأنها أصل في أحكام الشرع سواء وافقها القياس أو خالفها .
وقال أبو حنيفة إن خالفت القياس الذي لا يحتمل كان العمل على القياس أولى من الأخذ بالسنة .
وهذا فاسد لأن القياس فرع السنة فلا يجوز أن يكون رافعا للسنة .
وإن اقترن بالسنة في ذلك الحكم أصل آخر فهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : كتاب الله
والضرب الثاني : سنة أخرى .
والضرب الثالث : إجماع .
الضرب الأول : وهو أن يقترن بالسنة في ذلك الحكم كتاب الله فلا يخلو الكتاب من أن يكون موافقا لحكم السنة ، أو منافيا له .
فإن كان موافقا صار ذلك الحكم ثابتا بأصلين هما الكتاب والسنة .
ونظر فيهما فإن تقدمت السنة به على الكتاب كان وجوبه بالسنة ، والكتاب مؤكد ، وإن تقدم الكتاب به على السنة كان وجوبه بالكتاب والسنة مؤكدة .
[ ص: 104 ] وإن كان الكتاب منافيا للسنة في ذلك الحكم فأثبته أحدهما ونفاه الآخر ، فهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : أن يتقدم الكتاب فيكون العمل على الكتاب دون السنة لأن الكتاب لا ينسخ بالسنة .
والضرب الثاني : أن تتقدم السنة على الكتاب فيكون العمل على مذهب الشافعي بالسنة دون الكتاب ، لأن عنده أن السنة لا تنسخ بالكتاب . وعلى مذهب من أجاز نسخ السنة بالكتاب من أصحابه كابن سريج وغيره يكون العمل على الكتاب دون السنة وتكون السنة منسوخة بالكتاب .
والضرب الثالث : أن يردا موردا واحدا ولا يتقدم أحدهما على الآخر ، فقد اختلف أصحاب الشافعي ، في المأخوذ به منهما ، على ثلاثة مذاهب :
أحدها : يؤخذ فيه بكتاب الله ، لأنه أصل السنة ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاعملوا به وإن خالفه فاتركوه " .
والمذهب الثاني : أن يؤخذ فيه بحكم السنة لاختصاصها بالبيان والله تعالى يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا 4 [ الحشر : 7 ] .
والمذهب الثالث : يجب التوقف عنهما ، حتى يقوم الدليل ، على ثبوت أحدهما . والصحيح عندي : أن ينظر في حكم السنة فإن كان تخصيصا عمل على السنة دون الكتاب ، لأن عموم الكتاب مخصوص بالسنة ، وإن كان نسخا عمل على الكتاب دون السنة لأن الكتاب لا ينسخ بالسنة .
وأما الضرب الثاني في مقابلة السنة بالسنة : فإن اتفقا وكان الفعل فيهما موافقا لقول تأكد الحكم باجتماعهما فيه ، ووجب العمل به ، وإن تنافيا فيه وكان الفعل في السنة مخالفا للقول . مثل أن يرد عن الرسول قول فيعمل بخلافه ، والأحكام قد تؤخذ من فعله كما تؤخذ من قوله ، فهذا على ثلاثة أضرب :
أحدها : أن يمكن استعمالهما على ما لا يتنافيان ، مثل نهيه عن الصلاة بعد العصر ، ثم صلى بعد العصر فحمل نهيه عن الصلاة التي لا سبب لها ، وحمل فعله على الصلاة التي لها سبب ، فيجب العمل بها ويحمل كل منهما على ما يوجبه استعمالهما .
والضرب الثاني : أن يكون الرسول مخصوصا بذلك الفعل ، كما بين اختصاصه [ ص: 105 ] بالوصال في الصيام بعد نهيه عنه ، فيؤخذ بعموم قوله ، ويعدل عن خصوص فعله .
والضرب الثالث : أن لا يمكن استعمالهما ولا تبين اختصاصه بأحدهما فهذا يوجب أن يكون التأخر منهما ناسخا للمتقدم .
والظاهر من مذهب الشافعي أن القول لا ينسخ إلا بالقول ، والفعل لا ينسخ إلا بالفعل .
وذهب بعض أصحابه إلى جواز نسخ كل واحد منهما بالآخر ، لأن كل واحد منهما سنة يؤخذ بها .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السارق " فإن عاد في الخامسة فاقتلوه . ثم رفع إليه في الخامسة فلم يقتله فدل على أن القتل منسوخ وقال : " " ثم رجم الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ماعزا ولم يجلده فدل على أن الجلد منسوخ ، وقال في الإمام : " " ثم صلى بأصحابه قاعدا وصلوا خلفه قياسا فدل على أن القعود منسوخ وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين
فعل مذهب من جوز نسخ القول بالفعل جعل فعله المتأخر ناسخا لقوله المتقدم . وعلى الظاهر من مذهب الشافعي أن القول لا ينسخ بالفعل ، لكن يستدل بفعله المخالف لقوله على أنه قد تقدم على فعله قول نسخ القول الأول ثم ورد فعله المخالف بعد قوله الناسخ فاقتصر الناس على نقل الفعل دون القول لظهور النسخ فيه .
فإن لم يعلم المتقدم من المتأخر عدل عنهما إلى عمل الصحابة بأحدهما فكان عملهم بأحدهما دليلا على نسخ الآخر .
وإن لم يكن في العمل بيان وجب التوقف عنهما حتى يقوم الدليل على ثبوت أحدهما .
وأما الضرب الثالث : في مقابلة السنة بالإجماع فهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : أن يكون الإجماع موافقا للسنة في العمل بها كما قال : " " لا ميراث لقاتل
" " ونهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وأجمعوا على العمل بهذه السنن فيكون الحكم ثابتا بالسنة والإجماع دليلا على صحة النقل فيصير هذا الخبر في حكم المتواتر وإن لم يكن متواترا . ولا وصية لوارث
والضرب الثاني : أن يكون الإجماع منعقدا على خلاف السنة فتدل مخالفة الإجماع للسنة على أنها منسوخة أو نقلها غير صحيح ، فيكون ذلك موجبا لترك السنة والعمل على الإجماع .
[ ص: 106 ] والضرب الثالث : أن يعمل بها بعض الصحابة ويتركها بعضهم ، واجب وإن تركها بعضهم لأن التارك لها محجوج بها . فالعمل بالسنة
وإذا رويت سنة لمن غاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعمل بها ثم لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد اختلف أصحابنا هل يلزمه سؤاله عنها ؟ على وجهين :
أحدهما : يلزمه سؤاله عنها ليكون على يقين من وجوب العمل بها .
والوجه الثاني : لا يلزمه السؤال ويجوز أن يعمل فيها على الخبر ، لأنه لو لزمه السؤال إذا حضر للزمته الهجرة إذا غاب .
والصحيح عندي : أن وجوب السؤال مختلف باختلاف السنة فإن كانت تغليظا لم يلزم السؤال عنها وإن كانت ترخيصا لزمه السؤال عنها لأن التغليظ التزام والترخيص إسقاط .
وإذا ظفر الإنسان براوي حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعلق بالسنن والأحكام فإن كان من العامة المقلدين لم يلزمه سماع الحديث ، لأن فرضه السؤال عند نزول الحوادث به وإن كان من الخاصة المجتهدين لزمه سماع الحديث ليكون أصلا في اجتهاده ، ونقل السنن من فروض الكفايات .
فإذا نقلها من فيه كفاية سقط فرضها عن الباقين وإذا قصر ناقلوها عن الكفاية خرجوا أجمعين لطلب العلم .
والذي يدخل في فرض الكفاية من قبلت منه الرواية ، ولا يدخل فيهم من لم تقبل روايته .
وعلى متحمل السنة أن يرويها إذا سئل عنها ولا يلزمه روايتها إذا لم يسأل عنها إلا أن يجد الناس على خلافها فيلزمه روايتها ليعملوا بها والله أعلم .