فصل : ما يستقر به الإجماع :  
وأما الفصل الثالث  فيما يستقر به الإجماع      : فمعتبر بأربعة شروط :  
أحدها :  العلم باتفاقهم عليه سواء اقترن بقولهم عمل أو لم يقترن      .  
ومنع بعض الناس من استقرار الإجماع بمجرد القول حتى يقترن به عمل لأن العمل تحقيق القول .  
وهذا لا وجه له : لأن حجج الأقوال أوكد من حجج الأفعال ، وإن كان كل واحد منهما إذا انفرد حجة فلم يلزم اجتماعهما إذا لم يختلفا .  
فإن تجرد الإجماع في القول عن عمل يخالفه أو يوافقه كان القول إجماعا .  
وإن تجرد الإجماع في العمل عن قول يوافقه أو يخالفه كان العمل إجماعا .  
فإن أجمعوا على القول واختلفوا في العمل بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في العمل تأويل .  
وإن أجمعوا على العمل واختلفوا في القول بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في القول تأويل لما يلزم من اتفاقهم في القول والعمل .  
 [ ص: 113 ] فإن  جهل الاتفاق في القول والعمل ولم يتحقق   لم يثبت بذلك إجماع ولا خلاف لترددهما بين اتفاق يكون إجماعا وافتراق يكون خلافا فلذلك لم يثبت به إجماع ولا خلاف .  
والشرط الثاني :  أن يستديموا ما كانوا عليه من الإجماع ولا يحدث من أحدهم خلاف      .  
فإن  خالفهم الواحد بعد إجماعه معهم   بطل الإجماع وشاع الخلاف لأنه لما جاز أن يحدث إجماعهم بعد الخلاف جاز أن يحدث خلافهم بعد الإجماع ، هذا  علي بن أبي طالب   خالف في بيع أمهات الأولاد بعد إجماعه مع  أبي بكر   وعمر      - رضي الله عنهم - على أن بيعهن لا يجوز فبطل بخلافه الإجماع في تحريم بيعهن ، وقد قيل إن  عليا   رجع بعد خلافه حين قال له  عبيدة السلماني      : " يا أمير المؤمنين : إن رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك " .  
فإن كان هذا الرجوع صحيحا كان تحريم بيعهن إجماعا .  
والشرط الثالث :  أن ينقرض عصرهم حتى يؤمن حدوث الخلاف بينهم   فإن بقاء العصر ربما أحدث من بعضهم خلافا كما  خالف  عبد الله بن عباس   في العول بعد موت  عمر   فقيل له : ألا قلته في أيامه فقال هبته وكان امرءا مهيبا     .  
وليس يعتبر في انقراض العصر موت جميع أهله لأن هذا أمر يضيق ولا ينحصر وقد تتداخل الأعصار ويتدرج الناس من حال بعد حال ويختلفون في الأعمار والآجال . وإنما  المعتبر في انقراضه   أمران :  
أحدهما : أن يستولي على العصر الثاني غير أهل العصر الأول .  
والثاني : أن ينقرض فيهم من بقي من أهل العصر الأول ، قد عاش  أنس بن مالك   وعبد الله بن أبي أوفى   إلى عصر التابعين فطاولوهم فجمعوا بين عصرين فلم يدل ذلك على بقاء عصر الصحابة بهم .  
وإذا كان انقراض العصر شرطا في استقرار الإجماع فهو معتبر في الأحكام التي لا يتعلق بها إتلاف واستهلاك ، ولا يستقر إجماعهم فيها إلا بانقراضهم عليها .  
فأما الأحكام التي يتعلق بها إتلاف واستهلاك لا يمكن استدراكه كإراقة الدماء واستباحة الفروج فقد اختلف أصحابنا في انقراض العصر هل يكون شرطا في انعقاد الإجماع عليه ؟ على وجهين :  
أحدهما : يكون شرطا فيه كغيره من الأحكام .  
 [ ص: 114 ] والوجه الثاني : لا يكون شرطا ، والإجماع مستقر بالاتفاق عليه وليس لأحدهم أن يحدث خلافا فيه ، لأنهم في عظائم الأمور لا يجوز أن يتفقوا على الإجماع عليها إلا بعد وضوح الحق فيها كما أجمعوا مع  أبي بكر   على قتال مانعي الزكاة ، وفيه إراقة الدماء فلم يكن لأحدهم بعد الإجماع وما سفك فيه من الدماء أن يخالف فيه ، لأنه يجعل ما تقدم من إجماعهم منكرا ولا يجوز أن تجتمع الأمة على منكر .  
الشرط الرابع :  أن لا يلحق بالعصر الأول من ينازعهم من أهل العصر الثاني      .  
فإن لحق بعض الصحابة بعض التابعين فخالفهم فيما أجمعوا عليه فقد اختلف أصحاب  الشافعي      : هل يمنع خلافه من انعقاد الإجماع ؟ على وجهين :  
أحدهما : أن الإجماع منعقد لا يرتفع بخلافه ، لأنهم بمشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم أحفظ لشريعته وقد  أنكرت  عائشة     - رضي الله عنها - على  أبي سلمة بن عبد الرحمن   منازعته الصحابة وقالت : أراك كالفروج إذا اجتمع مع الديك صايحها     .  
والوجه الثاني : أن خلافه يمنع من انعقاد الإجماع : لأن صغر السن لا يمنع من نفوذ القول كما خالف  ابن عباس   في صغر سنه أكابر الصحابة ، وقد  قال  علي      : اعرف الحق تعرف أهله     .  
فإذا استقر الإجماع بهذه الشروط الأربعة وجب أن يكون إجماع  أهل العصر حجة على من بعدهم من أهل الأعصار المتأخرة   ولا يكون حجة على أهل عصره لعدم استقراره فيه ، فيكون إجماع الصحابة حجة على التابعين ، ولا يكون حجة على الصحابة ، وإجماع التابعين حجة على تابعي التابعين ، ولا يكون حجة على التابعين وهذا حكم الإجماع في كل عصر يأتي ما بقيت الأرض ومن عليها .  
وقال  داود   وطائفة من أهل الظاهر : الإجماع اللازم يختص بعصر الصحابة لاختصاصهم بنزول الوحي فيهم ، ولا يلزم إجماع من بعدهم من التابعين وغيرهم .  
وهذا فاسد من وجهين :  
أحدهما : أن وضوح الحق مستديم في كل عصر لأنه لا يخلو عصر من قائم لله بحجة ، ولو لم يلزم إجماعهم لخرج الحق عنهم .  
والثاني : أنه لما كان أهل كل عصر محجوجين بنقل من تقدمهم وجب أن يكونوا محجوجين بإجماع من تقدمهم ليكون الشرع محروسا بهم من الزلل والخطأ ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "  لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرها من ناوأها     " .  
				
						
						
