مسألة : قال الشافعي : " وإذا شهد الشهود عند القاضي إن كان له أو ولاية إن كانت له وسأله عن صناعته وكنيته إن كانت له وعن مسكنه وعن موضع بياعته ومصلاه " . كتب حلية كل رجل ورفع في نسبه
قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال الشهود إذا شهدوا عند القاضي من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن فيجوز أن يحكم بشهادتهم ويعمل على علمه في عدالتهم . يعلم عدالتهم في الظاهر والباطن
والحال الثانية : ، فلا يجوز أن يحكم بشهادتهم ، ويعمل على علمه في فسقهم ، فيحكم بعلمه في الجرح والتعديل . وهذا مما لم يختلف فيه مذهب أن يعلم فسقهم في الظاهر والباطن أو في الباطن دون الظاهر الشافعي ، وإن كان له في الحكم بعلمه فيما عداه قولان .
والحال الثالثة : : فلا يخلو أن يعلم إسلامهم ، أو لا يعلمه . أن لا يعرفوا بعدالة ولا فسق
فإن لم يعلم إسلامهم لم يجز أن يحكم بشهادتهم ، حتى يسأل عنهم وهذا متفق عليه . ولا يجوز أن يجري عليهم حكم الإسلام بظاهر الدار في سماع شهادتهم وإن أجرينا على اللقيط حكم الإسلام بظاهر الدار لما يتعلق بالشهادة من إلزام الحقوق التي لا تتعلق باللقيط .
[ ص: 179 ] وإن علم إسلامهم وجهل عدالتهم لم يجز أن يحكم بشهادتهم حتى يبحث عن عدالة ظاهرهم وباطنهم فيحكم بها بعد ثبوت عدالتهم .
وبه قال أكثر الفقهاء ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، وسواء كان لهم سيما حسن وسمت جميل أو لم يكن .
وقال أبو حنيفة : يجوز أن يحكم بشهادتهم ويعمل على الظاهر من عدالتهم ، ولا يلزمه البحث عنها إلا في الحدود التي لا يمكن استدراكها ، أو يجرحهم الخصم المشهود عليه ، فيلزمه في هاتين الحالتين البحث عن عدالتهم ، ولا يلزمه البحث عنها فيما عداهما .
وقال مالك : إن كان لهم سيما جميل وسمت حسن حكم بشهادتهم من غير بحث عن عدالتهم ، وإن لم يكن لهم سيما وسمت لم يحكم بشهادتهم ، إلا بعد البحث عن عدالتهم استدلالا بقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ البقرة : 143 ] .
ودليله من وجهين :
أحدهما : قوله " وسطا " والوسط العدل ومنه قول الشاعر .
هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
والثاني : أنه جعلهم بما محمدا رسول الله ؟ " قال : نعم فأمر بلالا أن ينادي في الناس بالصيام من الغد ، ولم يسأل عن عدالته ، وعمل على الظاهر من حاله . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " روي أن أعرابيا شهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برؤية الهلال ، فقال له : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في فرية فحكم بظاهر العدالة ، إلا من ثبت جرحه .
وبما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب ، فإن الله تولى السرائر ، ودرأ الحدود بالأيمان والبينات وهذا عهد عمل به المسلمون ، وتلقوه بالقبول فصار كالإجماع .
وقالوا : ولأن الفسق طارئ بما يستحدثه من فعل المعاصي بعد البلوغ ، فوجب أن يستدام حكم عدالته ما لم يثبت خلافها من فسقه .
[ ص: 180 ] قالوا : ولأنه لما اعتبر إسلامه في الظاهر دون الباطن وجب اعتبار عدالته في الظاهر دون الباطن .
ولأن الرواة لأخبار الديانات لما اعتبرت عدالة ظاهرهم دون باطنهم كان في الشهادات أولى .
ولأنه لما اعتبر في شهود المناكح عدالة الظاهر ، كذلك شهود غير المناكح .
ودليلنا قوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . وقال تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا فأمر بالعدل ، ونهى عن الفاسق ، فوجب البحث عن حاله ليعلم أنه من المأمور بهم أو المنهي عنهم ، ولا يحكم بالعدالة عن جهالة كما لا يحكم بالفسق عن جهالة لاحتمال الأمرين .
وروى سليمان بن حريث قال شهد رجل عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال له عمر : إني لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك فائتني بمن يعرفك فقال له رجل : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين قال : بأي شيء تعرفه ؟ قال : بالعدالة والفضل ، . قال : هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا . قال : فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا قال : فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا قال : فلست تعرفه ثم قال للرجل : ائتني بمن يعرفك فدل هذا من قوله وفعله على وجوب البحث عن العدالة .
ومن القياس أن كل عدالة شرطت في الشهادة لم يجز الحكم بها مع الجهالة كالشهادة على الحدود .
ولأن كل شهادة وجب البحث عن عدالتها في الحدود وجب البحث عن عدالتها في غير الحدود كما لو طعن فيها الخصم .
ولأن كل عدالة وجب البحث عنها إذا طعن فيها الخصم وجب البحث عنها وإن لم يطعن الخصم كالحدود .
ولأن اعتبار العدالة مجمع عليه ، وإنما الاختلاف في صفة الاعتبار ، فهم اعتبروها بالظاهر ونحن نعتبرها بالبحث والبحث أقوى من الظاهر ، فوجب أن يكون أحق بالاعتبار لما فيه من الاحتياط والاستظهار .
ولأنه لما لم يجز أن يحكم بإسلامه بالظاهر من دار الإسلام لأن فيها كفارا لم يجز أن يحكم بعدالته بظاهر الإسلام : لأن في المسلمين فساقا .
فأما الجواب عن قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] . فمن وجهين :
[ ص: 181 ] أحدهما : أنهم شهدوا فيما أجمعوا عليه لقوله عليه السلام " . لا تجتمع أمتي على ضلالة
والثاني : أن المراد بها شهادتهم في الآخرة عند الله تعالى بأن الرسل قد بلغوا رسالة ربهم [ ألا ترى كيف ] قال : ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] . أن ما شهدتم به حق .
وأما الجواب عن قوله : " المسلمون عدول " فهو أن ما أوجبه الإسلام من عمل الطاعات واجتناب المعاصي موجب لعدالتهم ، وكذلك نقول فيهم إذا علمنا ذلك منهم ، والبحث إنما يتوجه إلى العلم بهذا .
وكذا الجواب عن حديث الأعرابي .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن الفسق طارئ فهو أن العدالة بفعل الطاعات ، والفسق بفعل المعاصي ، وكل واحد من الفعلين طارئ ، فلم يكن الأخذ بأحدهما أولى من الآخر .
وأما الجواب عن قولهم : لما اعتبر ظاهر إسلامه اعتبر ظاهر عدالته فهو أن الإسلام اعتقاد يخفى فعمل فيه على الظاهر ، والعدالة والفسق بأفعال تظهر فأوجبت البحث .
وأما الجواب عن عدالة الرواة : فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين :
أحدهما : أنه تعتبر فيهم عدالة الظاهر والباطن كالشهادة ولا تقبل روايتهم إلا بعد البحث عن عدالتهم فعلى هذا الوجه يسقط الاستدلال وهو أصح الوجهين .
والوجه الثاني : أنه يعتبر فيهم عدالة الظاهر ويعتبر في الشهود عدالة الظاهر والباطن .
والفرق بينما من وجهين :
أحدهما : أن أخبار الديانات يستوي فيها المخبر وغير المخبر ، فكانت التهمة منتفية والاعتبار أخف ، والشهادة يختلف فيها الشاهد والمشهود عليه ، فكانت التهمة متوجهة والاعتبار أغلظ .
والثاني : [ أنه قد يقبل في الرواية من النساء والعبيد من لم يقبل في الشهادة ويقبل خبر الراوي مع وجود المروي عنه ، وتقبل منها رواية الواحد عن الواحد وهي التي تسمى العنعنة ، لقوله حدثني فلان عن فلان . ومثل هذا كله لا يجوز في الشهادة ] كذلك حال العدالة .
[ ص: 182 ] وأما الجواب عن عدالة شهود المناكح فقد كان بعض أصحابنا يذهب إلى اعتبار عدالتهم في الظاهر والباطن ، كالشهادة في الحقوق ، والذي عليه جمهورهم وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المعتبر فيهم عدالة الظاهر دون الباطن .
والفرق بينه وبين الشهادة في الحقوق من وجهين :
أحدهما : أن عدالة الباطن لا يصل إليها غير الحكام ، فاختص اعتبارها بالأحكام .
والثاني : أن عقود المناكح تكثر ، وفي تأخيرها إلى البحث عن عدالة الباطن ضرر شاق فخالفت شهادة الأحكام .