فصل : ثم إن الشافعي عارضهم في هذا الفصل الرابع ، بما تناقضت فيه مذاهبهم ، وخالفوا به أصول الكتاب والسنة من وجهين :
أحدهما : أنهم حكموا في الاستهلال بشهادة امرأة واحدة ، وهو مما يراه الرجال ، وهذا إنما أورده عليهم ، لأنهم منعوا من اليمين مع الشاهد ، لأن الله تعالى قد استوفى الشهادات في كتابه ، ولم يذكر اليمين مع الشاهد ، فصار زائدا على النص [ ص: 104 ] المفضي إلى النسخ ، فأورد عليهم فيه وليست المرأة الواحدة ببينة ، ولا لها في النص ذكر ، والشاهد واليمين أقوى منها ، فكيف رددتم الأقوى ، وأجزتم الأضعف ؟ وجعلتم الأقوى زائدا على النص المفضي إلى النسخ ؟ ولم تجعلوا ذلك في الأضعف ؟ هل هو إلا تناقض في القول ، وإبطال لمعنى النص في شهادة النساء بقوله تعالى : " شهادة المرأة الواحدة في الاستهلال عند التنازع أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] . فاقتصروا على المرأة الواحدة ، وإن لم تذكر إحداهما الأخرى .
والثاني : أن قال لمعتقد مذهب أبي حنيفة : كيف حكمت على أهل محلة ، وعلى عواقلهم بدية الموجود قتيلا في محلتهم في ثلاث سنين ؟ وزعمت أن القرآن يحرم أن يجوز أقل من شاهد وامرأتين وزعمت أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن اليمين براءة لمن حلف ، فخالفت في جملة قولك الكتاب والسنة ؟ وأراد الشافعي بهذا الرد عليهم في أمرين :
أحدهما : أنهم أجازوا في القسامة ما تمنع منه الأصول بغير أصل ، وردوا مع الشاهد ، وهو غير مخالف للأصول ، وله فيه أصل .
والثاني : أن السنة تدل على أن اليمين مبرئة ، وهم جعلوها ملزمة ، فعلقوا عليها ضد موجبها ، وليس يتعلق على الشاهد واليمين ضد موجبه ، فأجابوه عن اعتراضه عليهم بهذين الأمرين بأن قالوا : روينا هذا عن عمر ، فاتبعناه ، وكان أصلا فيه ، فرد الشافعي عليهم هذا من ثلاثة أوجه :
أحدها : قال : إن عمر لا يستجيز أن يخالف الكتاب والسنة ، وقوله في نفسه : " البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه " ، وقد جعلوه بهذا مخالفا للكتاب والسنة ، وقول نفسه . ورددتم اليمين مع الشاهد ، وفيه سنة لا تخالف الكتاب ، ولا السنة .
والوجه الثاني : أن قال : قد روي عن عمر ما لم يعلموا به ، وخالفتموه في أربعة أحكام :
أحدها : أنه جلبهم إلى مكة من مسيرة اثنين وعشرين يوما ، وهم لا يرون نقل الخصم من بلده إلى غير بلده .
والثاني : أنه أحلفهم في الحجر ، تغليظا بالمكان ، وهم لا يرون تغليظ الأيمان بالمكان .
والثالث : أنه اختار من أهل الحجر خمسين رجلا أحلفهم ، وهم يجعلون الخيار لولي الدم دون الوالي .
[ ص: 105 ] والرابع : أنه ألزمهم الدية ، لما حلفوا ، فقالوا : ما وفت أموالنا أيماننا ، ولا أيماننا أموالنا ، فقال : حقنتم بأيمانكم دماءكم ، فصرح بأنهم لو لم يحلفوا أقيدوا ، وهم لا يرون القود ، فلا بكل قول عمر أخذوا ، ولا لجميعه ردوا ، فإن كان قوله حجة فيما أخذوه كان حجة فيما ردوه ، وإن لم يكن حجة فيما ردوه ، فليس بحجة فيما أخذوه .
والوجه الثالث : أن قال لهم : عملتم بقول عمر في القسامة بما يخالف الأصول ، ولم تعملوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الشاهد واليمين وهو غير مخالف للأصول ، وهو حجة تدفع قول عمر ، وليس قول عمر حجة تدفع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما خالف الأصول ممتنع ، وما لم يخالفها فتبع ، فعملوا بخلاف ما أوجبه الشرع ، وردوا ما ورد به الشرع .