[ ص: 346 ] باب الدعوى في وقت قبل وقت
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كان العبد في يد رجل ، فأقام رجل بينة أنه منذ سنين ، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة فهو للذي هو في يديه ولم أنظر إلى قديم الملك وحديثه ( قال المزني ) : أشبه بقوله أن يجعل الملك للأقدم أولى ، كما جعل ملك النتاج أولى ، وقد يمكن أن يكون صاحب النتاج قد أخرجه من ملكه ، كما أمكن أن يكون صاحب الملك الأقدم أخرجه من ملكه " .
قال الماوردي : وصورتها في
وأقام البينة أنها له منذ سنة ، وأقام الآخر البينة أنها له منذ شهر ، أو أطلق الشهادة بالملك في الحال أو في مدة هي أقصر ، فلا يخلو حال الملك المتنازع فيه من ثلاثة أقسام : رجلين تداعيا عينا منقولة ، كعبد ، أو دابة ، أو غير منقولة كدار أو عقار .
أحدها : أن يكون في يد غيرهما .
والثاني : أن يكون في يدي أحدهما .
والثالث : أن يكون في أيديهما .
فأما القسم الأول : إذا كان الملك في يدي غيرهما ولأحدهما بينة بقديم الملك منذ سنة ، والآخر بينة لحديث الملك منذ شهر ، ففيهما قولان :
أحدهما : وهو اختيار أبي العباس بن سريج : أنهما سواء ، لا يترجح من شهدت بقديم على الأخرى لأمرين :
أحدهما : أنهما تنازعا ملكها في الحال ، فلم تؤثر بينة ما شهدت بما قبلها ، لأنه غير متنازع فيه .
والثاني : أن الشهادة بحديث الملك ، لم تنف بقديم الملك وإن أثبتته الأخرى فصارتا متكافئتين .
[ ص: 347 ] والقول الثاني : وهو أظهر وبه قال أبو حنيفة ، واختاره المزني ، أن الشهادة بقديم الملك أرجح ، والحكم بها أولى لأمرين :
أحدهما : أنهما قد تعارضتا في أقل المدتين ، وأثبتت المتقدمة ملكا لم يعارض فيه ، فوجب وقف المتعارض ، وأمضى ما ليس فيه تعارض .
والثاني : أن ثبوت ملك المتقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه ، ولم تتضمنه الشهادة ، فلم يحكم بها ، فإذا تقرر توجيه القولين .
فإن قيل بتساويهما على القول الأول ، صارتا متعارضتين فيكون فيهما ثلاثة أقاويل :
أحدها : إسقاطها والرجوع إلى صاحب اليد .
والقول الثاني : الإقراع بينهما ، والحكم لمن قرع منهما .
والقول الثالث : استعمالها ، وقسم الشيء بينهما ، وهذا القول يجيء في هذا الموضع لمكان الاشتراك .
فإن قيل بترجيح البينة بقديم الملك على البينة بحديثه ، وجعل الحكم فيها أولى ، ثبت لصاحبها الملك من المدة المتقدمة ، وحكم له بما حدث عن الملك من نتاج ، ونماء وغلة في تلك المدة ، وإلى وقته ، ثم يبنى على هذين القولين ما جعله المزني أصلا ، وهو إن تنازعا دابة ، فيقيم أحدهما البينة أنها له نتجها في ملكه ، ويقيم الآخر البينة أنها له ، ولا يقولون نتجها في ملكه .
حكى المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه جعلها لمن أقام البينة ، أنه نتجها في ملكه ، وجعله شاهدا على الحكم بقديم الملك دون حديثه ، فاختلف أصحابنا في النتاج : هل يترجح بالبينة قولا واحدا ، أو يكون على قولين كالشهادة بقديم الملك ؟ وذهب ابن سريج وابن خيران إلى التسوية بينهما ، وأنهما على قولين :
أحدهما : أنهما سواء في التعارض .
والثاني : أنه يترجح البينة بقديم الملك ، وبالنتاج على البينة الخالية منهما .
وحكى أبو علي بن خيران عن أبي العباس بن سريج أن الشهادة بالنتاج ليست من منصوصات الشافعي ، وإنما أوردها المزني من تلقاء نفسه .
وذهب جمهور أصحابنا إلى صحة نقله ، وأن بينة النتاج عند الشافعي أقوى من البينة بقديم الملك على قولين ، ولئن لم يكن النتاج مسطورا ، فقد نقله عنه سماعا ، وفرقوا بين النتاج وقديم الملك في القوة ، بأن الشهادة بالنتاج على ملكه تنفي أن يتقدم [ ص: 348 ] عليهما ملك لغيره ، فصار النتاج بهذا الفرق أقوى من قديم الملك ، فلذلك رجحت البينة بالنتاج قولا واحدا ، وكان ترجيحها بقديم الملك على قولين ، وهكذا لو تنازعا ثوبا ، وأقام أحدهما البينة على أنه له ، نسجه في ملكه ، وأقام الآخر ، البينة على أنه له ، ولم يقولوا نسجه في ملكه كان كالبينة بالنتاج على ما قدمناه من الشرح .
فأما إذا شهدت بينة أحدهما بسبب الملك من الابتياع ، أو ميراث وشهدت الأخرى بالملك من غير ذكر سببه ، فيكون الترجيح بذكر السبب كالترجيح بقديم الملك ، فيكون على قولين :
أحدهما : أن النسج ملحق بالنتاج وذكر السبب ملحق بقديم الملك .
فصل : وأما القسم الثاني : إذا كان الملك في يدي أحدهما وشهدت بينة أحدهما أنه له منذ سنة ، وشهدت بينة الآخر أنه له منذ شهر ، فإن كانت البينة بقديم الملك لصاحب اليد ، حكم له بالملك ، لا يختلف فيه مذهب الشافعي ، وجميع أصحابه ، لأنه قد ترجح باليد ، وبقديم الملك ، إن كانت البينة بقديم الملك الخارج ، دون صاحب اليد ترجح أحدهما باليد وترجح الآخر بقديم الملك فالذي نص عليه الشافعي هاهنا أنها تكون لصاحب اليد ترجيحا بيده على قديم الملك ، وتابعه جمهور أصحابه على هذا القول ، وبه قالأبو حنيفة ، فإنه حكم ببينة صاحب اليد في هذا الموضع ، وإن كان يرى أن بينة الخارج أولى من بينة صاحب اليد ، لأنه يمنع من بينة الداخل ، إذا لم تفد إلا ما أفادت اليد .
فأما إذا أفادت زيادة على ما أفادته اليد ، فإنه يقدمها على بينة الخارج ، وقد أفادت هذه البينة زيادة على ما أفادته يده ، فلذلك قدمها على بينة الخارج ، وعلى قول أبي يوسف ، ومحمد ، تكون بينة الخارج أولى في الأحوال كلها .
وذهب أبو إسحاق المروزي ، ومن تابعه من أصحاب الشافعي : إلى أن الترجيح بقديم الملك أولى من الترجيح باليد ، فيكون على قولين :
أحدهما : يحكم بقديم الملك إذا رجحت به البينة .
والثاني : يحكم لصاحب اليد إذا لم تترجح به البينة ، واحتج في ترجيح قديم الملك على الترجيح باليد ، بأنه لو شهدت بينة مدع أن هذه الدار كانت له بالأمس حكم له بملك الدار في اليوم استدامة لملكه ، ولو شهدت له أنها كانت في يده بالأمس لم يحكم له باليد في اليوم ، ولم يوجب استدامة يده .
وهذا خطأ من قائله ، لأن البينة تزاد لإثبات اليد ، فإذا ترجحت إحداهما باليد ، وافقت موجبها ، وخالفت موجب الأصل ، فكذلك ترجحت البينة بها ، وهذا المعنى موجود في قديم الملك وحديثه .
[ ص: 349 ] فأما ما استشهد به من قديم اليد ، وقديم الملك ، فهما سواء لا يحكم فيهما باستدامة اليد ، ولا باستدامة الملك حتى يشهدوا أنه كان مالكا لها بالأمس ، وإلى وقته ، لأن النزاع في ملكها ، فالوقت دون ما تقدم ، فصارت الشهادة بالمتقدم من غير التنازع ، فلم يحكم بها ، لأنه قد يملك ما يزول عنه ملكه في اليوم فإن كان أبو إسحاق المروزي يرى الحكم بها في اليوم مذهبا لنفسه ، خولف فيه تعليلا بما ذكرنا .
فإن قيل : فإذا رجحتم البينة باليد ، فهلا رجحتم بزيادة العدد ؟
قيل : لأن زيادة العدد لم تفد زيادة على ما أفادته زيادة البينة ، واليد أفادت من زيادة التصرف ما لم تفد البينة ، فلذلك ترجحت البينة باليد ، ولم تترجح بزيادة العدد .
فصل : وأما القسم الثالث : إذا ، فهذا على ضربين : كان الملك في أيديهما ، وكان دارا ، فأقام كل واحد منهما بأن جميع الدار له
أحدهما : أن تتكافأ البينتان ، ولا تشهد إحداهما بقديم الملك ، فقد أقام كل واحد منهما بينته بملك جميع الدار التي نصفها بيده ، ونصفها بيد الآخر ، فصار له فيما بيده بينة داخل ، وفيما في يد صاحبه بينة خارج ، فتعارضت البينتان في الدخول والخروج ، فإن قيل إن تعارضهما موجب لسقوطهما حلف كل واحد منهما لصاحبه ، وأقرت الدار في أيديهما ملكا باليد والتحالف .
وإن قيل : إن تعارضهما موجب لاستعمالهما وقسم الملك بينهما ، فلا يمين عليهما ، وتجعل الدار بينهما ملكا بالبينة .
والضرب الثاني : أن تشهد بينة أحدهما بقديم الملك وتشهد بينة الآخر بحديث الملك ، فإن لم تجعل الشهادة بقديم الملك ترجيحا للبينة على أحد القولين ، فالجواب على ما مضى من تكافؤ البينتين في جعل الدار بينهما نصفين ، باليد واليمين في أحد القولين ، وبالبينة من غير يمين في القول الثاني ، وإن ترجحت الشهادة بقديم المالك على القول الثاني خلص لصاحبها النصف الذي في يده ، وتقابل في النصف الآخر ، ترجيح بينة بقديم الملك ، وترجيح بينة الآخر باليد ، فعلى قول أبي إسحاق المروزي يحكم به لمن ترجحت بينته بقديم الملك ، فتصير جميع الدار له لأنه يجعل الترجيح بتقديم الملك أقوى من الترجيح باليد ، وعلى الظاهر من مذهب الشافعي ، وما عليه جمهور أصحابه يحكم بالنصف الآخر لصاحب اليد ، لأنه يجعل الترجيح باليد أقوى من الترجيح بقديم الملك ، فتصير الدار بينهما نصفين بغير أيمان قولا واحدا : لأنه محكوم بينهما في النصفين بترجيح البينتين من غير إسقاط لهما ولا قسمة باستعمالها . والله أعلم .