فصل
ما ذكرناه من أنه يرد اليمين على المدعي ، ولا يقضى على المدعى عليه بالنكول هو الأصل المقرر في المذهب ، لكن قد يتعذر رد اليمين ، وحينئذ من الأصحاب من يقول بالقضاء بالنكول ، وبيانه بصور ، إحداها طولب صاحب المال بالزكاة ، فقال : بادلت بالنصاب في أثناء الحول ، أو دفعت الزكاة إلى ساع آخر ، أو غلط الخارص في الخرص ، أو أصاب الثمر جائحة ، واتهمه الساعي ، فيحلف على ما يدعيه إيجابا أو استحبابا على الخلاف السابق في كتاب الزكاة ، فإن نكل لم يطالب [ ص: 48 ] بشيء إن قلنا بالاستحباب ، وإن قلنا بالإيجاب ، فإن انحصر المستحقون في البلد ، وقلنا بامتناع النقل ، ردت اليمين عليهم ، وإلا فيتعذر الرد على الساعي والسلطان ، وفيما يفعل أوجه ، أحدها : لا يطالب بشيء إذا لم تقم عليه حجة ، والثاني : يحبس حتى يقر فيؤخذ منه ، أو يحلف فيترك ، والثالث : إن كان صاحب المال على صورة المدعي بأن قال : أديت في بلد آخر ، أو إلى ساع آخر ، أخذت منه الزكاة ، وإن كان على صورة المدعى عليه بأن قال : ما تم حولي أو الذي في يدي لفلان المكاتب ، لم يؤخذ منه . والرابع - وهو الأصح الأشهر - يؤخذ منه الزكاة ، وكيف سبيله ؟ وجهان قال : هو حكم بالنكول ، ورواه عن ابن القاص ابن سريج ، وسببه الضرورة ، وقال الجمهور : ليس حكما بالنكول ، لكن مقتضى ملك النصاب ومقتضى الحول الوجوب ، فإذا لم يثبت دافع ، أخذنا الزكاة .
الثانية : إذا مات ذمي في أثناء السنة ، فهل عليه قسط ما مضى ، أم لا شيء عليه ؟ قولان سبقا ، فلو غاب ذمي ، ثم عاد مسلما ، فقال : أسلمت قبل تمام السنة ، فليس علي جزية ، أو ليس تمامها ، وقال عامل الجزية : بل أسلمت بعدها ، فعليك تمام الجزية ، حلف الذي أسلم استحبابا في وجه ، وإيجابا في وجه ، فإن قلنا بالإيجاب فنكل ، فهل يقضى عليه بالجزية ، أم لا يطالب بشيء ، أم يحبس ليقر ، فيؤخذ منه ، أو يحلف فيترك ؟ فيه أوجه . قال الإمام : وقيد بما إذا غاب ، ثم عاد مسلما ، وظاهر هذا أنه لو كان عندنا ، وصادفناه مسلما بعد السنة ، وادعى أنه أسلم قبل تمامها ، وكتم إسلامه ، لم يقبل قوله ؛ لأن الظاهر أن من أسلم بدار الإسلام لم يكتمه . ابن القاص
[ ص: 49 ] الثالثة : ، فوجهان ، أحدهما : يصدقه بلا يمين ؛ لأنه إن كان كاذبا ، فكيف نحلفه وهو صبي ؟ وإن كان صادقا وجب تصديقه ، وأصحهما : يحلف عند التهمة ، فإن نكل ، لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه ، ويقرب منه أن من شهد الوقعة من المراهقين إذا ادعى الاحتلام ، وطلب سهم المقاتلة ، أعطي إن حلف ، وإلا فوجهان ، أحدهما : يعطى ، ثم قيل : هو إعطاء بلا يمين ؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا منه ، فصدق فيه ، كما تصدق المرأة في الحيض ، ويقع الطلاق المعلق عليه ، وقيل : لأن شهود الوقعة تقتضي استحقاقهم السهم ، وأصحهما : لا يعطى ، قال ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام ، وطلب إثبات اسمه في الديوان : وهو قضاء بالنكول ، وقال غيره : إنما لم يعط ؛ لأن حجته في الإعطاء اليمين ولم توجد . ابن القاص
الرابعة : مات من لا وارث له ، فادعى القاضي ، أو منصوبه دينا له على رجل وجده في تذكرته ، فأنكر المدعى عليه ونكل ، فهل يقضى عليه بالنكول ، ويؤخذ منه المال ، أم يحبس حتى يقر ، أو يحلف ، أم يترك لكن يأثم إن كان معاندا ؟ فيه ثلاثة أوجه ، ويجري فيما لو ادعى ولي صبي ميت على وارثه أنه أوصى بثلثه للفقراء ، وأنكر الوارث ، ونكل . ولو ادعى ولي صبي أو مجنون دينا له على رجل فأنكر ونكل ، ففي رد اليمين على الولي أوجه ، أحدهما : ترد ؛ لأنه المستوفي ، والثاني : لا ؛ لأن إثبات الحق لغير الحالف بعيد . والثالث : إن ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه ردت ، وإلا فلا ، وأجري الخلاف فيما لو أقام شاهدا هل يحلف معه ، وفيما لو ادعي على الولي دين في ذمة [ ص: 50 ] الصبي هل يحلف الولي إذا أنكر . والوصي والقيم في ذلك كالولي ، ويجري في قيم المسجد والوقف إذا ادعى للمسجد أو للوقف ، وأنكر المدعى عليه ، ونكل . وتحليف الولي والصبي سبق لهما ذكر في آخر كتاب الصداق ، ثم ميل الأكثرين إلى ترجيح المنع من الأوجه الثلاثة ، ولا بأس بوجه التفصيل ، وقد رجحه أبو الحسن العبادي ، وبه أجاب السرخسي في " الأمالي " ، فإن منعنا رد اليمين إلى الولي والوصي ، انتظرنا بلوغ الصبي ، وإفاقة المجنون ، وكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه ، وتصير اليمين موقوفة على البلوغ ، والإفاقة ، ويعود في قيم المسجد والوقف الوجهان في أنه يقضى بالنكول ، أم يحبس ليحلف أو يقر ، والأصح في مسألة من لا وارث له أن لا يقضى بالنكول ، بل يحبس ليحلف أو يقر ، وإنما حكمنا فيما قبلها من الصور بالمال ؛ لأنه سبق أصل يقتضي الوجوب ، ولم يظهر دافع . ولو ادعى قيم المحجور عليه ، ونكل المدعى عليه ، حلف المحجور عليه أنه يلزمه تسليم هذا المال ، ولكن لا يقول إلي ، وقيمه يقول في الدعوى : يلزمك تسليمه إلي .
الخامسة : كما سبق ، فإن نكل ، فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه يرد اليمين على القاذف ، فإن حلف اندفع عنه حد القذف ، وقيل : يسقط بنكوله حد القذف ولا يرد اليمين ، حكاه للقاذف أن يحلف المقذوف أنه لم يزن الهروي .