[ ص: 67 ] وذلك أن  ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي   يليق بالجمهور ، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور ، وإن فرض تحقيقا .  
فأما الأول ; فهو المطلوب المنبه عليه ، كما إذا طلب معنى الملك ، فقيل : إنه خلق من خلق الله يتصرف في أمره ، أو معنى الإنسان ; فقيل : إنه هذا الذي أنت من جنسه ، أو معنى التخوف فقيل : هو التنقص ، أو معنى الكوكب فقيل : هذا الذي نشاهده بالليل ، ونحو ذلك ; فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال .  
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة ; كما قال عليه السلام  الكبر بطر الحق ، وغمط الناس     ; ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد ، وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة ، من حيث كانت أظهر في الفهم منها ، وقد بين عليه      [ ص: 68 ] السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور ، وكذلك سائر الأمور ، وهو عادة العرب ، والشريعة عربية ، ولأن الأمة أمية ; فلا يليق بها من البيان إلا الأمي ، وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا ، والحمد لله .  
فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة .  
وأما الثاني : - وهو ما لا يليق بالجمهور - ; فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له ; لأن مسالكه صعبة المرام ،  وما جعل عليكم في الدين من حرج      [ الحج : 78 ] كما إذا طلب معنى الملك ، فأحيل به على معنى أغمض منه ، وهو ماهية مجردة عن المادة أصلا ، أو يقال : جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي ، أو طلب معنى الإنسان فقيل : هو الحيوان الناطق المائت ، أو يقال : ما الكوكب ؟ فيجاب بأنه جسم بسيط كري ، مكانه الطبيعي نفس الفلك ، من شأنه أن ينير ، متحرك على الوسط ، غير مشتمل عليه ، أو سئل عن المكان ; فيقال : هو السطح الباطن من الجرم الحاوي ، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب ، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني ، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ، ولا كلف به .  
وأيضا ; فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء ، وقد اعترف أصحابه      [ ص: 69 ] بصعوبته ، بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر ، وأنهم أوجبوا أن لا يعرف شيء من الأشياء على حقيقته ; إذ الجواهر لها فصول مجهولة ، والجواهر عرفت بأمور سلبية ; فإن الذاتي الخاص إن علم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا ، وإن لم يعلم ، فكان غير ظاهر للحس فهو مجهول ; فإن عرف ذلك الخاص بغير ما يخصه فليس بتعريف ، والخاص به كالخاص المذكور أولا ; فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة أو ظاهرة من طريق أخرى ، وذلك لا يفي بتعريف الماهيات ، هذا في الجوهر ، وأما العرض ; فإنما يعرف باللوازم ; إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك .  
وأيضا ; ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها ، وللمنازع أن يطالب بذلك ، وليس للحاد أن يقول : لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه ; إذ كثير من الصفات غير ظاهر ، ولا يقال أيضا : لو كان ثم ذاتي آخر ما عرفت الماهية [ دونه ] ; لأنا نقول : إنما تعرف الحقيقة إذا عرف جميع ذاتياتها ، فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف ، حصل الشك في معرفة الماهية .  
فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها ، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها ، وهذا المعنى تقرر ، وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها ; فتسور الإنسان على      [ ص: 70 ] معرفتها رمي في عماية ، هذا كله في التصور .  
وأما [ في ] التصديق ; فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية أو قريبة من الضرورية ، حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله ، وقوته .  
فإذا كان كذلك ; فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة ، وهو الذي نبه القرآن على أمثاله كقوله تعالى :  أفمن يخلق كمن لا يخلق      [ النحل : 17 ] .  
وقوله تعالى :  قل يحييها الذي أنشأها أول مرة      [ يس : 79 ] إلى آخرها .  
وقوله تعالى :  الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء      [ الروم : 40 ] .  
وقوله تعالى :  لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا      [ الأنبياء : 22 ] .  
وقوله تعالى :  أفرأيتم ما تمنون   أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون      [ الواقعة : 58 - 59 ] .  
وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق ، وإلا فتقرير الحكم كاف ، وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف ، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق ، وأقربها إلى عقول الطالبين ، لكن من غير ترتيب متكلف ، ولا نظم مؤلف ، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ، ولا يبالون كيف وقع في      [ ص: 71 ] ترتيبه ، إذا كان قريب المأخذ ، سهل الملتمس ، هذا وإن كان راجعا إلى نظم الأقدمين في التحصيل ; فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود ، لا من حيث احتذاء من تقدمهم .  
وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة ، إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل ; فليس هذا الطريق بشرعي ، ولا تجده في القرآن ، ولا في السنة ، ولا في كلام السلف الصالح ; فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود ، وهو بخلاف وضع التعليم ، ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية ، فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا ، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي ; لكان مناقضا لهذه المطالب ، وهو غير صحيح .  
وأيضا ; فإن الإدراكات ليست على فن واحد ، ولا هي جارية على      [ ص: 72 ] التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها ; فإنها لا تفاوت فيها يعتد به فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب ، ولكان التكليف خاصا لا عاما ، أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق أو ما فيه حرج ، وكلاهما منتف عن الشريعة ، وسيأتي في كتاب المقاصد تقرير هذا المعنى .  
				
						
						
