[ ص: 155 ] nindex.php?page=treesubj&link=20472كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله ، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط ، أو لا ، فإن جرى فذلك الأصل صحيح ، وإلا ; فلا .
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد - بالفرض - لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف ، كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح ، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه ، وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه ، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا .
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله : أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى ، وخبر رسوله ، وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق ، وألحق به
nindex.php?page=treesubj&link=30504امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد ، فإذا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد ، ولا استقام بحسبها في العادة ; فليس بأصل يعتمد عليه ،
[ ص: 156 ] ولا قاعدة يستند إليها .
ويقع ذلك في فهم الأقوال ، ومجاري الأساليب ، والدخول في الأعمال .
فأما فهم الأقوال ; فمثل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=141ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] إن حمل على أنه إخبار ; لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله ، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه ، وهو تقرير الحكم الشرعي ، فعليه يجب أن يحمل .
[ ص: 157 ] ومثله قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] ، إن حمل على أنه تقرير حكم شرعي ، استمر وحصلت الفائدة ، وإن حمل على أنه إخبار بشأن الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية .
وأما مجاري الأساليب فمثل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا إلخ [ المائدة : 93 ] .
فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم ، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ، ومن جملته الخمر ، لكن هذا الظاهر يفسد جريان
[ ص: 158 ] الفهم في الأسلوب ، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر ، لأن الله تعالى لما حرم الخمر ; قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهي معا ، فلا يمكن للمكلف امتثال .
ومن هنا خطأ
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر ، وقال له " إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله " .
إذ لا يصح أن يقال للمكلف : اجتنب كذا ، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا ، ثم يقال : فإن فعلت فلا جناح عليك .
[ ص: 159 ] وأيضا ; فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله ، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي لقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [ المائدة : 93 ] ; فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت ; لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق .
وأما الدخول في الأعمال ; فهو العمدة في المسألة ، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة ; لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا ، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد ، فلا يستمر الإطلاق ، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة ، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح ، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص ; إذ هو الحاكم فيها ، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا .
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية ; لم يأمن الغلط ، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات ، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم ، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين .
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر :
[ ص: 160 ] إحداهما : أنه كتب إلي بعض شيوخ
المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه ، والشغل به ، فقال فيه : " وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته ; فرغ سره منه بالخروج عنه ، ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون " .
فاستشكلت هذا الكلام ، وكتبت إليه بأن قلت : أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح ، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب ، فلا أدري ما هذا الوجوب ؟ ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم ، وديارهم ، وقراهم ، وأزواجهم ، وذرياتهم ، وغير ذلك مما يقع لهم
[ ص: 161 ] به الشغل في الصلاة ، وإلى هذا ; فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال .
وأيضا ; فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل ; فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء ، أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة ، هذا ما لا يفهم ، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة ، وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره ، إن أمكنه الخروج عنه شرعا ، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ، ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها ؟ وله موضع غير هذا . اه حاصل المسألة .
فلما وصل إليه ذلك ; كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه ، وهو صحيح ; لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة ; لاختلاف أحوال الناس فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة .
والثانية : مسألة الورع بالخروج عن الخلاف ; فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا ، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها .
[ ص: 162 ] ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى
المغرب ، وإلى
إفريقية ; فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر ، بل كان من جملة الإشكالات الواردة ; أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به ، فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات ، وهو خلاف وضع الشريعة .
وأيضا ; فقد صار الورع من أشد الحرج ; إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ، ولا معاملة ، ولا أمر من أمور التكليف ، من خلاف يطلب الخروج عنه ، وفي هذا ما فيه .
فأجاب بعضهم : بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه ؛ المختلف
[ ص: 163 ] فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة ، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا ، بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي موارد التأمل ، وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل ، وأما الورع من حيث ذاته ، ولو في هذا النوع فقط - فشديد مشق ، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي
[ ص: 164 ] عنه ، وقد قال عليه السلام
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337354حفت الجنة بالمكاره ، هذا ما أجاب به .
فكتبت إليه : بأن ما قررتم من الجواب غير بين ؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده ، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال ، فليس مما نحن فيه ، وأما المقلد ; فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع ، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين ، والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين ، والذي دليله أضعف ، ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا ; لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر ، وليس العامي كذلك ; وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به ، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة ، والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة ، وربا النساء ، ومحاش النساء ، وما أشبه ذلك .
[ ص: 165 ] وأيضا ; فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين ، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ، ولا يكونان كذلك عند بعض ; فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد ; لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده ، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له ، من غير أن يخرج عن الخلاف ، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله ، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر ، فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور ، وهو شديد جدا ، ومن يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا هو الذي أشكل على السائل ، ولم يتبين جوابه بعد .
ولا كلام في أن
nindex.php?page=treesubj&link=29501_29500الورع شديد في نفسه ، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد ; إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل ; لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج ، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة .
وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع - بينا ; فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع ، وإن كان شديدا في مخالفة النفس ، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في
[ ص: 166 ] مخالفة النفس ; فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج ، وأنه ليس ما أشرتم إليه . اه . ما كتبت به ، وهنا وقف الكلام بيني وبينه .
ومن تأمل هذا التقرير ; عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه ; فلا يصح أن يستند إليه ، ولا يجعل أصلا يبنى عليه .
والأمثلة كثيرة ; فاحتفظ بهذا الأصل ; فهو مفيد جدا ، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع ، وتمييز المتشابهات ، وما يعتبر من وجه الاشتباه وما لا يعتبر ، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله .
[ ص: 155 ] nindex.php?page=treesubj&link=20472كُلُّ أَصْلٍ عِلْمِيٍّ يُتَّخَذُ إِمَامًا فِي الْعَمَلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ بِهِ الْعَمَلُ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي مِثْلِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ مِنْهُ رُكْنٌ وَلَا شَرْطٌ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ جَرَى فَذَلِكَ الْأَصْلُ صَحِيحٌ ، وَإِلَّا ; فَلَا .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا يُرَادُ - بِالْفَرْضِ - لِتَقَعَ الْأَعْمَالُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ ، كَانَتِ الْأَعْمَالُ قَلْبِيَّةً أَوْ لِسَانِيَّةً أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، فَإِذَا جَرَتْ فِي الْمُعْتَادِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عِلْمًا لِتَخَلُّفِهِ ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ انْقِلَابِ الْعِلْمِ جَهْلًا .
وَمِثَالُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي نَحْنُ فِي تَأْصِيلِ أُصُولِهِ : أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ فِي أُصُولِ الدِّينِ امْتِنَاعُ التَّخَلُّفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَخَبَرِ رَسُولِهِ ، وَثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ، وَأُلْحِقَ بِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=30504امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا فِيهِ حَرَجٌ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ ، فَإِذًا كَلُّ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ تَخَلَّفَ عَنْ جَرَيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَجَارِي فَلَمْ يَطَّرِدْ ، وَلَا اسْتَقَامَ بِحَسَبِهَا فِي الْعَادَةِ ; فَلَيْسَ بِأَصْلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ،
[ ص: 156 ] وَلَا قَاعِدَةٍ يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا .
وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْأَقْوَالِ ، وَمَجَارِي الْأَسَالِيبِ ، وَالدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ .
فَأَمَّا فَهْمُ الْأَقْوَالِ ; فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=141وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : 141 ] إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ ; لَمْ يَسْتَمِرَّ مُخْبَرُهُ لِوُقُوعِ سَبِيلِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَثِيرًا بِأَسْرِهِ وَإِذْلَالِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ الْوَاقِعُ وَيَطَّرِدُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، فَعَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ .
[ ص: 157 ] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [ الْبَقَرَةِ : 233 ] ، إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، اسْتَمَرَّ وَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَاتِ لَمْ تَتَحَكَّمْ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا عُلِمَ قَبْلَ الْآيَةِ .
وَأَمَّا مَجَارِي الْأَسَالِيبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا إِلَخْ [ الْمَائِدَةِ : 93 ] .
فَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا دُخُولَ كُلِّ مَطْعُومٍ ، وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِي اسْتِعْمَالِهِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْخَمْرُ ، لَكِنْ هَذَا الظَّاهِرُ يُفْسِدُ جَرَيَانَ
[ ص: 158 ] الْفَهْمِ فِي الْأُسْلُوبِ ، مَعَ إِهْمَالِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ ; قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ فَاجْتَمَعَ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ مَعًا ، فَلَا يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ امْتِثَالٌ .
وَمِنْ هُنَا خَطَّأَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ ، وَقَالَ لَهُ " إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ " .
إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ : اجْتَنِبْ كَذَا ، وَيُؤَكَّدُ النَّهْيُ بِمَا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِيهِ جِدًّا ، ثُمَّ يُقَالُ : فَإِنْ فَعَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ .
[ ص: 159 ] وَأَيْضًا ; فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ ، وَهُوَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ كَالْمُنَافِي لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ الْمَائِدَةِ : 93 ] ; فَلَا يُمْكِنُ إِيقَاعُ كَمَالِ التَّقْوَى بَعْدَ تَحْرِيمِهَا إِذَا شُرِبَتْ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ .
وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْأَعْمَالِ ; فَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا أَدَّى الْقَوْلُ بِحَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ إِلَى الْحَرَجِ أَوْ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا ، فَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَلَا اطِّرَادٍ ، فَلَا يَسْتَمِرُّ الْإِطْلَاقُ ، وَهُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ ، لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِ مَوَارِدِهَا عَلَى عُمُومِهَا أَوْ إِطْلَاقِهَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى تُقَيَّدَ بِالْقُيُودِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاطِّرَادِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَتَصِحَّ ، وَفِي ضِمْنِهِ تَدْخُلُ أَحْكَامُ الرُّخَصِ ; إِذْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهَا ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَا تَدْخُلُهُ الرُّخْصَةُ وَمَا لَا .
وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ فِي تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ; لَمْ يَأْمَنِ الْغَلَطَ ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَجِدُ خَرْمَ هَذَا الْأَصْلِ فِي أُصُولِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهَاتِ ، وَالطَّوَائِفِ الْمَعْدُودِينَ فِي الْفِرَقِ الضَّالَّةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ وَالشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَسَأُمَثِّلُ لَكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ وَقَعَتِ الْمُذَاكَرَةُ بِهِمَا مَعَ بَعْضِ شُيُوخِ الْعَصْرِ :
[ ص: 160 ] إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ كَتَبَ إِلِيَّ بَعْضُ شُيُوخِ
الْمَغْرِبِ فِي فَصْلٍ يَتَضَمَّنُ مَا يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْآخِرَةِ النَّظَرُ فِيهِ ، وَالشُّغْلُ بِهِ ، فَقَالَ فِيهِ : " وَإِذَا شَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ لَحْظَةٍ فِي صَلَاتِهِ ; فَرَّغَ سِرَّهُ مِنْهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ يُسَاوِي خَمْسِينَ أَلْفًا كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَّقُونَ " .
فَاسْتَشْكَلْتُ هَذَا الْكَلَامَ ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُلْتُ : أَمَّا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِتَفْرِيغِ السِّرِّ مِنْهُ فَصَحِيحٌ ، وَأَمَّا أَنَّ تَفْرِيغَ السِّرِّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَاجِبٌ ، فَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْوُجُوبُ ؟ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا بِإِطْلَاقٍ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْخُرُوجُ عَنْ ضِيَاعِهِمْ ، وَدِيَارِهِمْ ، وَقُرَاهُمْ ، وَأَزْوَاجِهِمْ ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ
[ ص: 161 ] بِهِ الشُّغْلُ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِلَى هَذَا ; فَقَدْ يَكُونُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَالِ سَبَبًا لِلشُّغْلِ فِي الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شُغْلِهِ بِالْمَالِ .
وَأَيْضًا ; فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ هُوَ الشَّاغِلُ فَمَاذَا يَفْعَلُ ; فَإِنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ الشَّغْلُ بِسَبَبِ الْإِقْلَالِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ لَا يَجِدُ إِلَى إِغَاثَتِهِمْ سَبِيلًا ، وَلَا يَخْلُو أَكْثَرُ النَّاسِ عَنِ الشُّغْلِ بِآحَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، أَفَيَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخُرُوجُ عَمَّا سَبَّبَ لَهُمُ الشُّغْلَ فِي الصَّلَاةِ ، هَذَا مَا لَا يُفْهَمُ ، وَإِنَّمَا الْجَارِي عَلَى الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ طَلَبُ مُجَاهَدَةِ الْخَوَاطِرِ الشَّاغِلَةِ خَاصَّةً ، وَقَدْ يُنْدَبُ إِلَى الْخُرُوجِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَشْغَلَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ ، إِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ شَرْعًا ، وَكَانَ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَقْدُهُ تَأْثِيرًا يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ مَا فَرَّ مِنْهُ أَوْ أَعْظَمَ ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الشُّغْلُ كَيْفَ حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَوِ اسْتِحْبَابِهَا أَوْ سُقُوطِهَا ؟ وَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . اه حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ .
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ ; كَتَبَ إِلَيَّ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِيهِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ غَيْرُ جَارٍ فِي الْوَاقِعِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ ; لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهُ أَصْلًا فِقْهِيًّا أَلْبَتَّةَ .
وَالثَّانِيَةُ : مَسْأَلَةُ الْوَرِعِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعُدُّونَ الْخُرُوجَ عَنْهُ فِي الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ مَطْلُوبًا ، وَأَدْخَلُوا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا .
[ ص: 162 ] وَلَا زِلْتُ مُنْذُ زَمَانٍ اسْتَشْكِلُهُ حَتَّى كَتَبْتُ فِيهَا إِلَى
الْمَغْرِبِ ، وَإِلَى
إِفْرِيقِيَّةَ ; فَلَمْ يَأْتِنِي جَوَابٌ بِمَا يَشْفِي الصَّدْرَ ، بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ ; أَنَّ جُمْهُورَ مَسَائِلِ الْفِقْهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا اخْتِلَافًا يُعْتَدُّ بِهِ ، فَيَصِيرُ إِذًا أَكْثَرُ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ .
وَأَيْضًا ; فَقَدْ صَارَ الْوَرَعُ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَجِ ; إِذْ لَا تَخْلُو لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ عِبَادَةٌ ، وَلَا مُعَامَلَةٌ ، وَلَا أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ التَّكْلِيفِ ، مِنْ خِلَافٍ يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ .
فَأَجَابَ بَعْضُهُمْ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ ؛ الْمُخْتَلَفُ
[ ص: 163 ] فِيهِ اخْتِلَافًا دَلَائِلُ أَقْوَالِهِ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ ، وَلَيْسَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ هَكَذَا ، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ أَقَلُّهَا لِمَنْ تَأَمَّلَ مِنْ مُحَصِّلِي مَوَارِدِ التَّأَمُّلِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا إِلَّا الْأَقَلَّ ، وَأَمَّا الْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ ، وَلَوْ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطُّ - فَشَدِيدٌ مُشِقٌّ ، لَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِلَى كَثْرَةِ اسْتِحْضَارِ لَوَازِمِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ
[ ص: 164 ] عَنْهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337354حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ، هَذَا مَا أَجَابَ بِهِ .
فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ : بِأَنَّ مَا قَرَّرْتُمْ مِنَ الْجَوَابِ غَيْرُ بَيَّنٍ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُجْتَهِدِ وَحْدَهُ ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا يَتَوَرَّعُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ لَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقْوَالِ ، فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ ; فَقَدْ نَصَّ صَاحِبُ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ عَلَى طَلَبِ خُرُوجِهِ مِنَ الْخِلَافِ إِلَى الْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَفْتَاهُ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَالْعَامِّيُّ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَالَّذِي دَلِيلُهُ أَضْعَفُ ، وَلَا يَعْلَمُ هَلْ تَسَاوَتْ أَدِلَّتُهُمْ أَوْ تَقَارَبَتْ أَمْ لَا ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ ، وَلَيْسَ الْعَامِّيُّ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا بُنِيَ الْإِشْكَالُ عَلَى اتِّقَاءِ الْخِلَافِ الْمُعْتَدِّ بِهِ ، وَالْخِلَافُ الْمُعْتَدُّ بِهِ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ ، وَالْخِلَافُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَلِيلٌ كَالْخِلَافِ فِي الْمُتْعَةِ ، وَرِبَا النَّسَاءِ ، وَمَحَاشِّ النِّسَاءِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
[ ص: 165 ] وَأَيْضًا ; فَتَسَاوِي الْأَدِلَّةِ أَوْ تَقَارُبُهَا أَمْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ ، فَرُبَّ دَلِيلَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ بَعْضٍ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ ، وَلَا يَكُونَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضٍ ; فَلَا يَتَحَصَّلُ لِلْعَامِّيِّ ضَابِطٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ مِنَ الْخِلَافِ مِمَّا لَا يَجْتَنِبُهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُجْتَهِدِ ; لِأَنَّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ أَوْ عَدَمِهِ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَاتِّبَاعُ نَظَرِهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْخِلَافِ ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ هَذَا الْمُجْتَهِدُ يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَ خَصْمِهِ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِيمَا إِذَا رَاجَعَ الْمُجْتَهِدَ الْآخَرَ ، فَلَا يَزَالُ الْعَامِّيُّ فِي حَيْرَةٍ إِنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الْأُمُورَ ، وَهُوَ شَدِيدٌ جِدًّا ، وَمَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى السَّائِلِ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ جَوَابُهُ بَعْدُ .
وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29501_29500الْوَرَعَ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْتِزَامَ التَّقْوَى شَدِيدٌ ; إِلَّا أَنَّ شِدَّتَهُ لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، بَلْ مِنْ جِهَةِ قَطْعِ مَأْلُوفَاتِ النَّفْسِ وَصَدِّهَا عَنْ هَوَاهَا خَاصَّةً .
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا مَنَاطَ الْمَسْأَلَةِ وَجَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ - بَيِّنًا ; فَإِنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ سَهْلٌ فِي الْوُقُوعِ ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ ، وَوَرَعُ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ صَعْبٌ فِي الْوُقُوعِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي
[ ص: 166 ] مُخَالَفَةِ النَّفْسِ ; فَقَدْ تَبَيَّنَ مَقْصُودُ السَّائِلِ بِالشِّدَّةِ وَالْحَرَجِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَا أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ . اه . مَا كَتَبْتُ بِهِ ، وَهُنَا وَقَفَ الْكَلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا التَّقْرِيرَ ; عَرَفَ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ لَا يَطَّرِدُ ، وَلَا يَجْرِي فِي الْوَاقِعِ مَجْرَى الِاسْتِقَامَةِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ فِي وُقُوعِهِ ; فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَنَدَ إِلَيْهِ ، وَلَا يُجْعَلَ أَصْلًا يُبْنَى عَلَيْهِ .
وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ ; فَاحْتَفِظْ بِهَذَا الْأَصْلِ ; فَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْوَرِعِ ، وَتَمْيِيزِ الْمُتَشَابِهَاتِ ، وَمَا يُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهِ الِاشْتِبَاهِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مَسَائِلُ تُحَقِّقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .