[ ص: 365 ] المسألة الرابعة
، وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء ، فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت ، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق ; إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس . القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ
بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة ، وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة ، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات .
وقد قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ]
وقال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ الأحقاف : 35 ]
وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ]
وقال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله الآية [ المائدة : 43 ] .
[ ص: 366 ] وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة ، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما .
وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .
وقال في قصة موسى عليه السلام : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ]
وقال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ البقرة : 183 ]
وقال : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة [ القلم : 17 ]
وقال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات .
وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق ، هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ، ومثل ذلك التحسينيات ، فقد قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ العنكبوت : 29 ] ، وقوله : فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن ، وغير ذلك .
[ ص: 367 ] وأما قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ المائدة : 48 ] ، فإنه يصدق على الفروع الجزئية ، وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار ، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها ، وثبتت ولم تنسخ ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى والله تعالى أعلم .