فصل  
وقد حصل من هذه الجملة أنه  لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد   على الجملة ، بل الأمر ينقسم; فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقه; فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه ، وما سوى ذلك من العلوم ، فلا يلزم ذلك فيه ، وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة      [ ص: 46 ] الاجتهاد; فهذه ثلاثة مطالب لا بد من بيانها :  
أما الأول : وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة فالدليل عليه أمور :  
أحدها : أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة   ، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة;  فالشافعي  عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته ،  وأبو حنيفة  كذلك ، وإنما عدوا من أهله  مالكا  وحده ، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ، ويبني الحكم على ذلك ، والحكم لا يستقل دون ذلك      [ ص: 47 ] الاجتهاد .  
ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم ; لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب ، وليس الأمر كذلك بالإجماع .  
والثاني : أن  الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه   ، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال ، بل يقول العلماء : إن من فعل ذلك; فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات ، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الأسطقصات أربعة ، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان ، وغير ذلك من المقدمات ، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى :      [ ص: 48 ]    "  وامسحوا برءوسكم وأرجلكم      " بالخفض مروي على الصحة ، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم ، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله :  كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية      [ البقرة : 180 ] منسوخ بآية المواريث ، ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض ، وما أشبه ذلك ثم يبني عليه الأحكام ، بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين ، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر ، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد ، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية ، ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه ، وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر      [ ص: 49 ] لوجود الصانع والرسالة والشريعة; إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها ، كانت كذلك في نفس الأمر أو لا ، وهذا أوضح من إطناب فيه .  
فلا يقال : إن  المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التي يبنى عليها   لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده; لأنا نقول ، بل يحصل له العلم بذلك; لأنه مبني على فرض صحة تلك المقدمات ، وبرهان الخلف مبني على      [ ص: 50 ] مقدمات باطلة في نفس الأمر ، تفرض صحيحة فيبنى عليها; فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب; فمسألتنا كذلك .  
والثالث : أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه ، فضلا أن يكون مجتهدا فيه ، وهو الاجتهاد في تنقيح المناط ، وإنما يفتقر إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة ، وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه ، وهو المطلوب .  
فإن قيل : إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه; لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا يكون مجتهدا فيها بإطلاق ، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق ، وكلامنا إنما هو      [ ص: 51 ] في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق ، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها .  
فالجواب : إن ذلك شرط في العلم بالمسألة المجتهد فيها بإطلاق لا شرط في صحة الاجتهاد; لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد ، وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها ، فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه; كان بناؤه صحيحا; لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم ، وهو قد وقع ، ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني ، وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس  كمالك ،   والشافعي ،  وأبي حنيفة  كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم وصاروا في عداد أهل الاجتهاد ، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم ، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها ، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم ، وعمل على وفقها ، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم; فصار قول  ابن القاسم  أو قول  أشهب  أو      [ ص: 52 ] غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم ، كما كان  أبو يوسف  ومحمد بن الحسن  مع  أبي حنيفة ،  والمزني   والبويطي  مع   الشافعي ،  فإذا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها .  
وأما الثاني من المطالب ، وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه ، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه; لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه; فلا بد من تحصيله على تمامه ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه .  
والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية ، ولا أعني بذلك النحو وحده ، ولا التصريف وحده ، ولا اللغة ، ولا علم المعاني ، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان ، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معان كيف تصورت ما عدا علم الغريب ، والتصريف المسمى بالفعل ، وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية; فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن      [ ص: 53 ] كان العلم به كمالا في العلم بالعربية ، وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية ، وإذا كانت عربية; فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم; لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز ، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة ، أو متوسطا; فهو متوسط في فهم الشريعة ، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية; فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة; فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة ، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ، ولا كان قوله فيها مقبولا .  
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها;  كالخليل ،   وسيبويه ،  والأخفش ،  والجرمي ،  والمازني  ومن سواهم ، وقد  قال :  الجرمي     : " أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب   سيبويه     " .  
 [ ص: 54 ] وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث ، وكتاب   سيبويه  يتعلم منه النظر والتفتيش ، والمراد بذلك أن   سيبويه  وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب ، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها ، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ونحو ذلك ، بل هو يبين في كل باب ما يليق به ، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ، ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ، ومن هنالك كان  الجرمي  على ما قال ، وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب   سيبويه  من غير إنكار .  
ولا يقال : إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية; فقالوا : ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ  الخليل ،   وسيبويه ،  وأبي عبيدة ،   والأصمعي ،  الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة ، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة .  
لأنا نقول : هذا غير ما تقدم تقريره ، وقد قال   الغزالي  في هذا الشرط : إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ، وحقيقته ومجازه ، وعامه وخاصه ،      [ ص: 55 ] ومحكمه ومتشابهه ، ومطلقه ومقيده ، ونصه وفحواه ، ولحنه ومفهومه .  
وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ، ثم قال : والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ  الخليل   والمبرد ،  وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو .  
وهذا أيضا صحيح; فالذي نفي اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط ، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك      [ ص: 56 ] المقدار ، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ، ولا أن يستعمل الدقائق; فكذلك المجتهد في العربية; فكذلك المجتهد في الشريعة ، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ  الخليل   وسيبويه  في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض; فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه; وإن كان ممن تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين ، وعلما في الأئمة المهتدين .  
وقد أشار   الشافعي  في رسالته إلى هذا المعنى ، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ، ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره ، وبالعام يراد به العام ، ويدخله الخصوص ، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام ، وبالعام يراد به الخاص ، ويعرف بالسياق ، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره ، وآخره عن أوله ، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد .  
 [ ص: 57 ] ثم قال : فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ، ومن تكلف ما جهل ، وما لم تثبته معرفته; كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان بخطئه غير معذور ، إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه .  
هذا قوله ، وهو الحق الذي لا محيص عنه ، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها ، وما سواها من المقدمات; فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا ، كأحكام النسخ ، وأحكام الحديث ، وما أشبه ذلك .  
فالحاصل أنه  لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب   بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ، ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب .  
وأما الثالث من المطالب : وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالما بها; فقد مر ما يدل عليه; فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه; فذلك لا يضره في كونه مجتهدا في عين مسألته      [ ص: 58 ] كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدائرة مثلا ، فلا يضره في صحة برهانه تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة ، وهو المبرهن على وجودها ، وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان ، وكما قالوا في تقليد   الشافعي  في علم الحديث ولم يقدح ذلك في صحة اجتهاده ، بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك ، ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد ، وكما بنى  مالك  أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن ، وإن كان هو غير عارف به ، وما أشبه ذلك .  
				
						
						
