[ ص: 177 ] المسألة العاشرة
النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية; فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها; فيكون
[ ص: 178 ] هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة .
والدليل على صحته أمور :
أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=21858التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد ، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية ، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم ، وأما الدنيوية; فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح; فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع ، والمسببات هي مآلات الأسباب; فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب ، وهو معنى النظر في المآلات .
لا يقال : إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب ، لأنا نقول - وتقدم أيضا - : أنه
nindex.php?page=treesubj&link=20591لا بد من اعتبار المسببات [ ص: 179 ] في الأسباب ، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ، ومسألتنا من الثاني لا من الأول; لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=22237المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين ، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب ، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب ، وهو مآل السبب .
والثاني : أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة; فإن اعتبرت فهو المطلوب ، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال ، وذلك غير صحيح; لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ، ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد .
وأيضا; فإن ذلك يؤدي إلى ألا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع ، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق .
والثالث : الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
[ ص: 180 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=188ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية [ البقرة : 188 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ النساء : 165 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية [ البقرة : 216 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .
وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة .
وأما في المسألة على الخصوص; فكثير ، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337927أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل [ ص: 181 ] أصحابه .
وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337928لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى
مالك الأمير حين أراد أن يرد
البيت على قواعد
إبراهيم ، فقال له : لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله ، هذا معنى الكلام دون لفظه .
وفي حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337929الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال : لا تزرموه .
وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الانقطاع .
وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا ، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا ،
[ ص: 182 ] لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة ، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها; فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز ، فالأصل على المشروعية ، لكن مآله غير مشروع ، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها; فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها .
قال
ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة : اختلف الناس بزعمهم فيها ، وهي متفق عليها بين العلماء; فافهموها وادخروها .
فصل
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد :
- منها
nindex.php?page=treesubj&link=22144قاعدة الذرائع التي حكمها
مالك في أكثر أبواب الفقه; لأن
[ ص: 183 ] حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة; فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة ، فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل; بأن يشتري البائع سلعته من مشتريها منه بخمسة نقدا; فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل ، والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل; لأن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء ، ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس
[ ص: 184 ] بمقتضى العادة .
ومن أسقط حكم الذرائع
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي; فإنه اعتبر المآل أيضا; لأن
[ ص: 185 ] البيع إذا كان مصلحة جاز ، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى; فكل عقدة منهما لها مآلها ، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة ، فلا مانع على هذا; إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ، ولكن هذا بشرط ألا يظهر قصد إلى المآل الممنوع .
ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=32477التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله ، عملا بمقتضى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وأشباه ذلك من المسائل التي اتفق
مالك مع
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على منع التوسل فيها .
وأيضا ، فلا يصح أن يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال; إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع
ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو ، وهو دال على القصد إلى الممنوع; فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة ، وإنما الخلاف في أمر آخر .
[ ص: 186 ] [ ص: 187 ] - ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=28204قاعدة الحيل; فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر ، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع; كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من
[ ص: 188 ] الزكاة; فإن أصل الهبة على الجواز ، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا; فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة ، فإذا جمع بينهما على هذا القصد; صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ، وهو مفسدة ، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية .
ومن أجاز الحيل
كأبي حنيفة; فإنه اعتبر المآل أيضا ، لكن على حكم الانفراد; فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة; كإنفاق المال عند رأس الحول ، وأداء الدين منه ، وشراء العروض به ، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة ، وهذا الإبطال صحيح جائز; لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق ، لكن هذا بشرط ألا يقصد إبطال الحكم ; فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع; لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة ، فلا يخالف
أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع ، وأما إبطالها ضمنا ، فلا ، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ، ولا يقول بهذا واحد منهم .
ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال; كالمنافقين والمرائين ، وما أشبه ذلك; وبهذا يظهر أن
nindex.php?page=treesubj&link=28207التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل ، والخلاف إنما وقع في أمر آخر .
- ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=21689قاعدة مراعاة الخلاف ، وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا
[ ص: 189 ] وقعت; فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها ، كالغصب مثلا إذا وقع; فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه ، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف ، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله ، وكان ذلك من غير زيادة صح ، فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم; لأن العدل هو
[ ص: 190 ] المطلوب ، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة ، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته; لأنه ظلم له ، وكونه جانيا لا يجنى عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته ، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي على المتعدي أخذا من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] ونحو ذلك .
وإذا ثبت هذا; فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة ، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي; فيترك وما فعل من ذلك ، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل ، نظرا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلا على
[ ص: 191 ] الجملة ، وإن كان مرجوحا; فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه; لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي; فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع; لما اقترن به من القرائن المرجحة ، كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس
البيت على قواعد
إبراهيم ، وحديث ترك قتل المنافقين ، وحديث البائل في المسجد; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله; لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر ، وبأنه ينجس موضعين ، وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337930أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ثم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337931فإن دخل بها; فلها المهر بما استحل منها وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد ، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام ، وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة ، وإلا كان في حكم الزنى ، وليس في حكمه باتفاق; فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح
[ ص: 192 ] جانب التصحيح .
وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة مقتضى النهي أو تزيد .
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد ، وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران :
نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي ، وهذا يقتضي الإبطال .
ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة; لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام ، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله ، وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام; لأنه مسلم لم يعاند الشارع ، بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ، ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية [ النساء : 17 ] .
وقالوا : إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل; فجرى عليه حكم الجاهل; إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح; فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد ، فإذ ذاك لا نظر في المسألة ، مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل ، وهو المطلوب .
[ ص: 193 ] ومما ينبني على هذا الأصل
nindex.php?page=treesubj&link=22147قاعدة الاستحسان ، وهو - في مذهب
[ ص: 194 ] مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس; فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة; كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا; إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى ، أو جلب مفسدة كذلك ، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي ، والحاجي مع التكميلي; فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده; فيستثنى موضع الحرج ، وكذلك في الحاجي مع التكميلي ، أو الضروري مع التكميلي ، وهو ظاهر .
وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا; فإنه ربا في الأصل; لأنه الدرهم
[ ص: 195 ] بالدرهم إلى أجل ، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين ، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ، ومثله
nindex.php?page=treesubj&link=5438بيع العرية بخرصها تمرا ; فإنه بيع الرطب باليابس ، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ، ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء ، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه .
ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر ، وجمع المسافر ، وقصر الصلاة ، والفطر في السفر الطويل ، وصلاة الخوف ، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل; فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص ، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك; لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة; فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه ، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي ، والقراض ، والمساقاة ، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع ، وأشياء من هذا القبيل كثيرة .
هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة ، وعليها بنى
[ ص: 196 ] مالك وأصحابه .
وقد قال
ابن العربي في
nindex.php?page=treesubj&link=22148تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص; لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ، ثم جعله أقساما; فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف ، وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك ، أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي ، وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة على الخلق; كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة ، وإجازة بيع وصرف في اليسير .
وقال في أحكام القرآن : الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل
[ ص: 197 ] بأقوى الدليلين; فالعموم إذا استمر ، والقياس إذا اطرد; فإن
مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان ، من ظاهر أو معنى ، ويستحسن
مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن
أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد
[ ص: 198 ] بخلاف القياس ، ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ، ولا يرى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا ، وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام .
وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدا .
وفي العتبية من سماع
أصبغ في
nindex.php?page=treesubj&link=26755الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد; فينكر أحدهما الولد دون الآخر ; أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به; فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال; لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به ، فقال
أصبغ : إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء; فلعله غلب ولا يدري ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد يتفلت .
قال : والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس ، قال : وقد سمعت
ابن القاسم يقول ويروي عن
مالك أنه قال : تسعة أعشار العلم الاستحسان .
فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة; إلا أنه
[ ص: 199 ] نظر إلى لوازم الأدلة ، ومآلاتها; إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان; لأن العزل لا حكم له إذ أقر بالوطء ، ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد ، لكن الاستحسان ما قال; لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ، ولا يكون مع العزل إلا نادرا; فأجرى الحكم على الغالب ، وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال ، وقد بالغ
أصبغ في الاستحسان حتى قال : إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة ، وإن الاستحسان عماد العلم ، والأدلة المذكورة تعضد ما قال .
ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى ، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا; فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج; كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال ،
[ ص: 200 ] واتساع أوجه الحرام والشبهات ، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ، ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا; لأدى إلى إبطال أصله ، وذلك غير صحيح .
وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها ، وشهود الجنائز ، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى ، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها; لأنها أصول الدين ، وقواعد المصالح ، وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم; فإنها مثار اختلاف وتنازع ، وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله ، والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال; فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق ، والله أعلم .
[ ص: 177 ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
النَّظَرُ فِي مَآلَاتِ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا كَانَتِ الْأَفْعَالُ مُوَافِقَةً أَوْ مُخَالِفَةً ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَحْكُمُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِقْدَامِ أَوْ بِالْإِحْجَامِ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِهِ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ ، مَشْرُوعًا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ تُسْتَجْلَبُ ، أَوْ لِمَفْسَدَةٍ تُدْرَأُ ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ مَا قُصِدَ فِيهِ ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لِمَفْسَدَةٍ تَنْشَأُ عَنْهُ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَنْدَفِعُ بِهِ ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الْأَوَّلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ; فَرُبَّمَا أَدَّى اسْتِجْلَابُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ تُسَاوِي الْمَصْلَحَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا; فَيَكُونُ
[ ص: 178 ] هَذَا مَانِعًا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الثَّانِي بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةٍ رُبَّمَا أَدَّى اسْتِدْفَاعُ الْمَفْسَدَةِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي أَوْ تَزِيدُ ، فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَهُوَ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِ صَعْبُ الْمَوْرِدِ إِلَّا أَنَّهُ عَذْبُ الْمَذَاقِ مَحْمُودُ الْغَبِّ جَارٍ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21858التَّكَالِيفَ - كَمَا تَقَدَّمَ - مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ، وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ وَإِمَّا أُخْرَوِيَّةٌ ، أَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَرَاجِعَةٌ إِلَى مَآلِ الْمُكَلَّفِ فِي الْآخِرَةِ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ; فَإِنَّ الْأَعْمَالَ - إِذَا تَأَمَّلْتَهَا - مُقَدِّمَاتٌ لِنَتَائِجِ الْمَصَالِحِ; فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتٍ هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ ، وَالْمُسَبَّبَاتُ هِيَ مَآلَاتُ الْأَسْبَابِ; فَاعْتِبَارُهَا فِي جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ مَطْلُوبٌ ، وَهُوَ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الْمَآلَاتِ .
لَا يُقَالُ : إِنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَا يَلْزَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ ، لِأَنَّا نَقُولُ - وَتَقَدَّمَ أَيْضًا - : أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=20591لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُسَبَّبَاتِ [ ص: 179 ] فِي الْأَسْبَابِ ، وَمَرَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَطْلَبَيْنِ ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنَ الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ; لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ النَّاظِرِ فِي حُكْمِ غَيْرِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحُظُوظِ; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22237الْمُجْتَهِدَ نَائِبٌ عَنِ الشَّارِعِ فِي الْحُكْمِ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُجْتَهِدِ بُدٌّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُسَبَّبِ ، وَهُوَ مَآلُ السَّبَبِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ; فَإِنِ اعْتُبِرَتْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَعْمَالِ مَآلَاتٌ مُضَادَّةٌ لِمَقْصُودِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ; لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ، وَلَا مَصْلَحَةَ تُتَوَقَّعُ مُطْلَقًا مَعَ إِمْكَانِ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ تُوَازِيهَا أَوْ تَزِيدُ .
وَأَيْضًا; فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا نَتَطَلَّبَ مَصْلَحَةً بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ ، وَلَا نَتَوَقَّعَ مَفْسَدَةً بِفِعْلٍ مَمْنُوعٍ ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ كَمَا سَبَقَ .
وَالثَّالِثُ : الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ أَنَّ الْمَآلَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْبَقَرَةِ : 21 ] .
[ ص: 180 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْبَقَرَةِ : 183 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=188وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 188 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 108 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 165 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [ الْأَحْزَابِ : 37 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 216 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [ الْبَقَرَةِ : 179 ] .
وَهَذَا مِمَّا فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَآلِ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخُصُوصِ; فَكَثِيرٌ ، فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337927أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ [ ص: 181 ] أَصْحَابَهُ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337928لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ بِمُقْتَضَى هَذَا أَفْتَى
مَالِكٌ الْأَمِيرَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ
الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ ، فَقَالَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ لِئَلَّا يَتَلَاعَبَ النَّاسُ بِبَيْتِ اللَّهِ ، هَذَا مَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ لَفْظِهِ .
وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337929الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ وَقَالَ : لَا تُزْرِمُوهُ .
وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ خَوْفًا مِنَ الِانْقِطَاعِ .
وَجَمِيعُ مَا مَرَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ مِمَّا فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعًا ، لَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ لِمَا يُؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مَمْنُوعًا ،
[ ص: 182 ] لَكِنْ يُتْرَكُ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا; فَإِنَّ غَالِبَهَا تَذَرُّعٌ بِفِعْلٍ جَائِزٍ إِلَى عَمَلٍ غَيْرِ جَائِزٍ ، فَالْأَصْلُ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ ، لَكِنَّ مَآلَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ كُلُّهَا; فَإِنَّ غَالِبَهَا سَمَاحٌ فِي عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّفْقِ الْمَشْرُوعِ ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاشْتِهَارِهَا .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ حِينَ أَخَذَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : اخْتَلَفَ النَّاسُ بِزَعْمِهِمْ فِيهَا ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ; فَافْهَمُوهَا وَادَّخِرُوهَا .
فَصْلٌ
وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ :
- مِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=22144قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ الَّتِي حَكَّمَهَا
مَالِكٌ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ; لِأَنَّ
[ ص: 183 ] حَقِيقَتَهَا التَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ إِلَى مَفْسَدَةٍ; فَإِنَّ عَاقِدَ الْبَيْعِ أَوَّلًا عَلَى سِلْعَةٍ بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ ظَاهِرُ الْجَوَازِ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْبَيْعِ مِنَ الْمَصَالِحِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا جَعَلَ مَآلَ ذَلِكَ الْبَيْعِ مُؤَدِّيًا إِلَى بَيْعِ خَمْسَةٍ نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ; بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ مِنْ مُشْتَرِيهَا مِنْهُ بِخَمْسَةٍ نَقْدًا; فَقَدْ صَارَ مَآلُ هَذَا الْعَمَلِ إِلَى أَنْ بَاعَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ مِنْ مُشْتَرِيهَا مِنْهُ خَمْسَةً نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ ، وَالسِّلْعَةُ لَغْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا فِي هَذَا الْعَمَلِ; لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْبَيْعُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ قَصْدٌ وَيَكْثُرَ فِي النَّاسِ
[ ص: 184 ] بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ .
وَمَنْ أَسْقَطَ حُكْمَ الذَّرَائِعِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790كَالشَّافِعِيِّ; فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَآلَ أَيْضًا; لِأَنَّ
[ ص: 185 ] الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مَصْلَحَةً جَازَ ، وَمَا فُعِلَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّانِي فَتَحْصِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى مُنْفَرِدَةٍ عَنِ الْأُولَى; فَكُلُّ عُقْدَةٍ مِنْهُمَا لَهَا مَآلُهَا ، وَمَآلُهَا فِي ظَاهِرِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَصْلَحَةٌ ، فَلَا مَانِعَ عَلَى هَذَا; إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَآلٌ هُوَ مَفْسَدَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَظْهَرَ قَصْدٌ إِلَى الْمَآلِ الْمَمْنُوعِ .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَتَّفِقُ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=32477التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِطْلَاقٍ وَاتَّفَقُوا فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبُّ الْأَصْنَامِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا فِي سَبِّ اللَّهِ ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [ الْأَنْعَامِ : 108 ] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ
مَالِكٌ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ فِيهَا .
وَأَيْضًا ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : إِنَّهُ يَجُوزُ التَّذَرُّعُ إِلَى الرِّبَا بِحَالٍ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّهِمُ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدٌ إِلَى الْمَمْنُوعِ
وَمَالِكٌ يَتَّهِمُ بِسَبَبِ ظُهُورِ فِعْلِ اللَّغْوِ ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ; فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَاعِدَةَ الذَّرَائِعِ مُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَمْرٍ آخَرَ .
[ ص: 186 ] [ ص: 187 ] - وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=28204قَاعِدَةُ الْحِيَلِ; فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَشْهُورَةَ تَقْدِيمُ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلِهِ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ ، فَمَآلُ الْعَمَلِ فِيهَا خَرْمُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ; كَالْوَاهِبِ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنَ
[ ص: 188 ] الزَّكَاةِ; فَإِنَّ أَصْلَ الْهِبَةِ عَلَى الْجَوَازِ ، وَلَوْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ لَكَانَ مَمْنُوعًا; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ أَمْرُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ; صَارَ مَآلُ الْهِبَةِ الْمَنْعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الْقَصْدِ إِلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَمَنْ أَجَازَ الْحِيَلَ
كَأَبِي حَنِيفَةَ; فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَآلَ أَيْضًا ، لَكِنْ عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ; فَإِنَّ الْهِبَةَ عَلَى أَيِّ قَصْدٍ كَانَتْ مُبْطِلَةً لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ; كَإِنْفَاقِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ ، وَأَدَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَشِرَاءِ الْعُرُوضِ بِهِ ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ ، وَهَذَا الْإِبْطَالُ صَحِيحٌ جَائِزٌ; لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ وَالْمُنْفِقِ ، لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يُقْصَدَ إِبْطَالُ الْحُكْمِ ; فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ بِخُصُوصِهِ مَمْنُوعٌ; لِأَنَّهُ عِنَادٌ لِلشَّارِعِ كَمَا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، فَلَا يُخَالِفُ
أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ قَصْدَ إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ صُرَاحًا مَمْنُوعٌ ، وَأَمَّا إِبْطَالُهَا ضِمْنًا ، فَلَا ، وَإِلَّا امْتُنِعَتِ الْهِبَةُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ مُطْلَقًا ، وَلَا يَقُولُ بِهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ .
وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَصْدِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى مُجَرَّدِ إِحْرَازِ النَّفْسِ وَالْمَالِ; كَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28207التَّحَيُّلَ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَاطِلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ نَظَرًا إِلَى الْمَآلِ ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ آخَرَ .
- وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=21689قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ إِذَا
[ ص: 189 ] وَقَعَتْ; فَلَا يَكُونُ إِيقَاعُهَا مِنَ الْمُكَلَّفِ سَبَبًا فِي الْحَيْفِ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى مَا شَرَعَ لَهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ أَوْ غَيْرِهَا ، كَالْغَصْبِ مَثَلًا إِذَا وَقَعَ; فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى إِضْرَارِ الْغَاصِبِ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ فِي الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، فَإِذَا طُولِبَ الْغَاصِبُ بِأَدَاءِ مَا غَصَبَ أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ صَحَّ ، فَلَوْ قُصِدَ فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ يَلْزَمْ; لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ
[ ص: 190 ] الْمَطْلُوبُ ، وَيَصِحُّ إِقَامَةُ الْعَدْلِ مَعَ عَدَمِ الزِّيَادَةِ ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي إِذَا حُدَّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ; لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ ، وَكَوْنُهُ جَانِيًا لَا يُجْنَى عَلَيْهِ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ الْمُوَازِي لِجِنَايَتِهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّعَدِّي عَلَى الْمُتَعَدِّي أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 194 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ الْمَائِدَةِ : 45 ] وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَمَنْ وَاقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ زَائِدٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ ، أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى أَمْرٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ; فَيُتْرَكُ وَمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ نُجِيزُ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِالْعَدْلِ ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَافَقَ الْمُكَلَّفَ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى
[ ص: 191 ] الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا; فَهُوَ رَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْحَالَةِ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِزَالَتِهَا مَعَ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَى الْفَاعِلِ أَشَدِّ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ; فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ دَلِيلُهُ أَقْوَى قَبْلَ الْوُقُوعِ ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ أَقْوَى بَعْدَ الْوُقُوعِ; لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ ، كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ تَأْسِيسِ
الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ ، وَحَدِيثِ تَرْكِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ ، وَحَدِيثِ الْبَائِلِ فِي الْمَسْجِدِ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ; لِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَ بَوْلُهُ لَنَجِسَتْ ثِيَابُهُ ، وَلَحَدَثَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ دَاءٌ فِي بَدَنِهِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ تَرْكِهِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى قَطْعِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ ، وَبِأَنَّهُ يُنَجِّسُ مَوْضِعَيْنِ ، وَإِذَا تُرِكَ فَالَّذِي يُنَجِّسُهُ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337930أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337931فَإِنْ دَخَلَ بِهَا; فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا وَهَذَا تَصْحِيحٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ الْمِيرَاثُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ ، وَإِجْرَاؤُهُمُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِلَّا كَانَ فِي حُكْمِ الزِّنَى ، وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ بِاتِّفَاقٍ; فَالنِّكَاحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ قَدْ يُرَاعَى فِيهِ الْخِلَافُ فَلَا تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مُرَاعَاةً لِمَا يَقْتَرِنُ بِالدُّخُولِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُرَجِّحُ
[ ص: 192 ] جَانِبَ التَّصْحِيحِ .
وَهَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُوَازِي مَفْسَدَةَ مُقْتَضَى النَّهْيِ أَوْ تَزِيدُ .
وَلِمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ دَلِيلٌ عَامٌّ مُرَجِّحٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ بِالْجَهْلِ مُخْطِئًا فِي عَمَلِهِ لَهُ نَظَرَانِ :
نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِبْطَالَ .
وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِأَحْكَامِهِمْ وَخَطَؤُهُ أَوْ جَهْلُهُ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ يَتَلَافَى لَهُ حُكْمٌ يُصَحِّحُ لَهُ بِهِ مَا أَفْسَدَهُ بِخَطَئِهِ وَجَهْلِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الْحُكْمِ لَهُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُعَانِدِ الشَّارِعَ ، بَلِ اتَّبَعَ شَهْوَتَهُ غَافِلًا عَمَّا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 17 ] .
وَقَالُوا : إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْصِي إِلَّا وَهُوَ جَاهِلٌ; فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَاهِلِ; إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْإِبْطَالِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ; فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَانَبُ التَّصْحِيحِ لَيْسَ لَهُ مَآلٌ يُسَاوِي أَوْ يَزِيدُ ، فَإِذْ ذَاكَ لَا نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِبْطَالِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
[ ص: 193 ] وَمِمَّا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
nindex.php?page=treesubj&link=22147قَاعِدَةُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَهُوَ - فِي مَذْهَبِ
[ ص: 194 ] مَالِكٍ - الْأَخْذُ بِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ كُلِّيٍّ ، وَمُقْتَضَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ; فَإِنَّ مَنِ اسْتَحْسَنَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَتَشَهِّيهِ ، وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى مَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَفْرُوضَةِ; كَالْمَسَائِلِ الَّتِي يَقْتَضِي الْقِيَاسُ فِيهَا أَمْرًا; إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ يُؤَدِّي إِلَى فَوْتِ مَصْلَحَةٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، أَوْ جَلْبِ مَفْسَدَةٍ كَذَلِكَ ، وَكَثِيرٌ مَا يَتَّفِقُ هَذَا فِي الْأَصْلِ الضَّرُورِيُّ مَعَ الْحَاجِيِّ ، وَالْحَاجِيُّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ; فَيَكُونُ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا فِي الضَّرُورِيِّ يُؤَدِّي إِلَى حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ فِي بَعْضِ مَوَارِدِهِ; فَيُسْتَثْنَى مَوْضِعُ الْحَرَجِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ ، أَوِ الضَّرُورِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ كَالْقَرْضِ مَثَلًا; فَإِنَّهُ رِبًا فِي الْأَصْلِ; لِأَنَّهُ الدِّرْهَمُ
[ ص: 195 ] بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ ، وَلَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَرْفَقَةِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ ، بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ ، وَمِثْلُهُ
nindex.php?page=treesubj&link=5438بَيْعُ الْعَرِيَّةِ بِخُرْصِهَا تَمْرًا ; فَإِنَّهُ بَيْعُ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ ، لَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَرِّي وَالْمُعَرَّى ، وَلَوِ امْتَنَعَ مُطْلَقًا لَكَانَ وَسِيلَةً لِمَنْعِ الْإِعْرَاءِ ، كَمَا أَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ لَوِ امْتَنَعَ فِي الْقَرْضِ لَامْتَنَعَ أَصْلُ الرِّفْقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَمِثْلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلْمَطَرِ ، وَجَمْعُ الْمُسَافِرِ ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ ، وَسَائِرُ التَّرَخُّصَاتِ الَّتِي عَلَى هَذَا السَّبِيلِ; فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا تَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَآلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْخُصُوصِ ، حَيْثُ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي مَنْعَ ذَلِكَ; لِأَنَّا لَوْ بَقِينَا مَعَ أَصْلِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ لَأَدَّى إِلَى رَفْعِ مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ; فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ رَعْيُ ذَلِكَ الْمَآلِ إِلَى أَقْصَاهُ ، وَمِثْلُهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ فِي التَّدَاوِي ، وَالْقِرَاضِ ، وَالْمُسَاقَاةِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ ، وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةً .
هَذَا نَمَطٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَعَلَيْهَا بَنَى
[ ص: 196 ] مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ .
وَقَدْ قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=22148تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنَّهُ إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصِ; لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ ، ثُمَّ جَعَلَهُ أَقْسَامًا; فَمِنْهُ تَرْكُ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ كَرَدِّ الْأَيْمَانِ إِلَى الْعُرْفِ ، وَتَرْكُهُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ كَتَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ ، أَوْ تَرْكُهُ لِلْإِجْمَاعِ كَإِيجَابِ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي ، وَتَرْكُهُ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ; كَإِجَازَةِ التَّفَاضُلِ الْيَسِيرِ فِي الْمُرَاطَلَةِ الْكَثِيرَةِ ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ .
وَقَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ
[ ص: 197 ] بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ; فَالْعُمُومُ إِذَا اسْتَمَرَّ ، وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ; فَإِنَّ
مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ ، مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى ، وَيَسْتَحْسِنُ
مَالِكٌ أَنْ يُخَصَّ بِالْمَصْلَحَةِ ، وَيَسْتَحْسِنَ
أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ
[ ص: 198 ] بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ وَنَقْضَ الْعِلَّةِ ، وَلَا يَرَى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ إِذَا ثَبَتَتْ تَخْصِيصًا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ نَظَرٌ فِي مَآلَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْعَامِّ وَالْقِيَاسِ الْعَامِّ .
وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا .
وَفِي الْعُتَبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ
أَصْبَغَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=26755الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَتَأْتِي بِوَلَدٍ; فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ ; أَنَّهُ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ; فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِنْزَالُ; لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِهِ ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ ، فَقَالَ
أَصْبَغُ : إِنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً; فَلَعَلَّهُ غُلِبَ وَلَا يَدْرِي ، وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=59عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي نَحْوِ هَذَا : إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَتَفَلَّتُ .
قَالَ : وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ ، قَالَ : وَقَدْ سَمِعْتُ
ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ وَيَرْوِي عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ .
فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ; إِلَّا أَنَّهُ
[ ص: 199 ] نَظَرٌ إِلَى لَوَازِمِ الْأَدِلَّةِ ، وَمَآلَاتِهَا; إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْقِيَاسِ هُنَا كَانَ الشَّرِيكَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ; لِأَنَّ الْعَزْلَ لَا حُكْمَ لَهُ إِذْ أُقِرَّ بِالْوَطْءِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَزْلِ وَعَدَمِهِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ مَا قَالَ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَعَ الْإِنْزَالِ ، وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا; فَأَجْرَى الْحُكْمَ عَلَى الْغَالِبِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْمَآلَ فِي جَرَيَانِ الدَّلِيلِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْإِنْزَالِ ، وَقَدْ بَالَغَ
أَصْبَغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَتَّى قَالَ : إِنَّ الْمُغْرِقَ فِي الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ ، وَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عِمَادُ الْعِلْمِ ، وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ تُعَضِّدُ مَا قَالَ .
وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا تُسْتَمَدُّ قَاعِدَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّةِ إِذَا اكْتَنَفَتْهَا مِنْ خَارِجٍ أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا; فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ التَّحَفُّظِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ; كَالنِّكَاحِ الَّذِي يَلْزَمُهُ طَلَبُ قُوتِ الْعِيَالِ مَعَ ضِيقِ طُرُقِ الْحَلَالِ ،
[ ص: 200 ] وَاتِّسَاعِ أَوْجُهِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ ، وَكَثِيرًا مَا يُلْجِئُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الِاكْتِسَابِ لَهُمْ بِمَا لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْمُرْبِيَةِ عَلَى تَوَقُّعِ مَفْسَدَةِ التَّعَرُّضِ ، وَلَوِ اعْتُبِرَ مِثْلُ هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مِثْلِ زَمَانِنَا; لَأَدَّى إِلَى إِبْطَالِ أَصْلِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِهِ مَنَاكِرُ يَسْمَعُهَا وَيَرَاهَا ، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ ، وَإِقَامَةُ وَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِقَامَتِهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَا لَا يُرْتَضَى ، فَلَا يُخْرِجُ هَذَا الْعَارِضُ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ أُصُولِهَا; لِأَنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ ، وَقَوَاعِدُ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فَيَجِبُ فَهْمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ; فَإِنَّهَا مَثَارُ اخْتِلَافٍ وَتَنَازُعٍ ، وَمَا يُنْقَلُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ قَضَايَا أَعْيَانٌ لَا حُجَّةَ فِي مُجَرَّدِهَا حَتَّى يُعْقَلَ مَعْنَاهَا فَتَصِيرَ إِلَى مُوَافَقَةِ مَا تَقَرَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ; فَاعْتِبَارُهَا لَازِمٌ فِي كُلِّ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .