الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقد أجمع العلماء على أن مسح الوجه واليدين بالتراب في التيمم فرض لا بد منه في الجملة، فإن الله تعالى يقول: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه

                                                                                                                                                                                          ولكن اختلفوا في قدر الفرض من ذلك:

                                                                                                                                                                                          فأما " الوجه ":

                                                                                                                                                                                          فمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء: أنه يجب استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه، وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح .

                                                                                                                                                                                          وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه آخر: أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وإن وجب عندهم المضمضة والاستنشاق في الوضوء .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد . والثانية: إن [ ص: 405 ] ترك قدر درهم لم يجزئه، وإن ترك دونه أجزأه . والثالثة: إن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا . والرابعة: إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلا فلا، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر .

                                                                                                                                                                                          وحكى ابن المنذر ، عن سليمان بن داود الهاشمي: أن مسح التيمم حكمه حكم مسح الرأس في الوضوء، يجزئ فيه البعض . وكلام الإمام أحمد يدل على حكاية الإجماع على خلاف ذلك . قال الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم؟ قال: يعيد الصلاة . فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحدا ترك ذلك من تيممه . قال الشالنجي: وقال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي يجزئه في التيمم إن لم يصب بعض وجهه أو بعض كفيه، لأنه بمنزلة المسح على الرأس; إذا ترك منه بعضا أجزأه .

                                                                                                                                                                                          قال الجوزجاني: فذكرت ذلك ليحيى بن يحيى - يعني: النيسابوري فقال: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء .

                                                                                                                                                                                          قال الجوزجاني: لم نسمع أحدا يتبع ذلك من رأسه في المسح، ولا بين أصابعه في التيمم كما يتبعوا في الوضوء بالتخليل، فأحسن الأقاويل منها ما ذكره يحيى بن يحيى: أن لا يتعمد ترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء لم يعد . انتهى . [ ص: 406 ] وظاهر هذا: يدل على أن مذهب سليمان بن داود ويحيى بن يحيى والجوزجاني: أنه إذا ترك شيئا من وجهه ويديه في التيمم لم يعد الصلاة . ونقل حرب، عن إسحاق، أنه قال: تضرب بكفيك على الأرض، ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفيك . ومراد إسحاق: أنه لا يشترط وصول التراب إلى جميع أجزاء الوجه كما يقوله من يقوله من الشافعية وغيرهم، حتى نص الشافعي : أنه لو بقي من محل الفرض شيء لا يدركه الطرف لم يصح التيمم . واستشكل أبو المعالي الجويني تحقق وصول التراب إلى اليدين إلى المرفقين بضربة واحدة، وقال: الذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار على جميع المحل . قال: وهذا شيء أظهر به، ولم أر منه بدا .

                                                                                                                                                                                          وحكى ابن عطية في "تفسيره " عن محمد بن مسلمة من المالكية: أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع بالماء، وجعله كالخف وما بين الأصابع في اليدين - يعني: في التيمم .

                                                                                                                                                                                          وحكى في وجوب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم قولين لأصحابهم: بالوجوب، والاستحباب .

                                                                                                                                                                                          وحكى ابن حزم في وجوب تخليل اللحية بالتراب اختلافا . وأما " اليدان ": فأكثر العلماء على وجوب مسح الكفين: ظاهرهما وباطنهما بالتراب إلى [ ص: 407 ] الكوعين، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعاب ذلك بالمسح .

                                                                                                                                                                                          وحكى ابن عطية عن الشعبي : أنه يمسح الكفين فقط، لحديث عمار ، وأنه لم يوجب إيصال التراب إلى الكوعين، وهذا لا يصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          وإنما المراد بحديث عمار ، وبما قاله الشعبي وغيره من مسح الكفين: مسحهما إلى الكوعين، وقد جاء ذلك مقيدا، رواه أبو داود الطيالسي . عن شعبة ، عن الحكم: سمع ذر بن عبد الله ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه، عن عمار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنما كان يجزئك " وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض إلى التراب، ثم قال: "هكذا"، فنفخ فيها . ومسح وجهه ويديه إلى المفصل، وليس فيه الذراعان .

                                                                                                                                                                                          وروى إبراهيم بن طهمان، عن حصين، عن أبي مالك ، عن عمار بن ياسر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين " . خرجه الدارقطني وقال: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان، ووقفه شعبة وزائدة وغيرهما . يعني: أنهم رووه عن حصين، عن أبي مالك ، عن عمار موقوفا . والموقوف أصح -: قاله أبو حاتم الرازي .

                                                                                                                                                                                          وأبو مالك ، قال الدارقطني : في سماعه من عمار نظر، فإن سلمة بن [ ص: 408 ] كهيل رواه عن أبي مالك ، عن ابن أبزى ، عن عمار .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حاتم : يحتمل أنه سمع منه .

                                                                                                                                                                                          وأبو مالك ، هو: الغفاري، سئل أبو زرعة : ما اسمه؟ فقال: لا يسمى .

                                                                                                                                                                                          وقال البيهقي : اسمه حبيب بن صهبان .

                                                                                                                                                                                          وفيما قاله نظر; فإن حبيب بن صهبان هو: أبو مالك الكاهلي الأسدي .

                                                                                                                                                                                          وأما الغفاري فاسمه: غزوان -: قاله ابن معين . وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم ، ووقع في بعض نسخ البخاري ، غير أن البخاري متوقف غير جازم بأن حبيب بن صهبان يكنى: أبا حاتم، ولا أن أبا مالك الغفاري اسمه: غزوان . وروي حديث عمار على وجه آخر: فروى الأعمش ، عن سلمة بن كهيل ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنما كان يكفيك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه، والذراعين إلى نصف الساعدين، ولم يبلغ المرفقين، ضربة واحدة . خرجه أبو داود . وخرجه - أيضا - من طريق سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي مالك ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، قال: كنت عند عمر ، فقال عمار : قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع . [ ص: 409 ] وخرجه النسائي من طريق سفيان ، عن سلمة، عن أبي مالك - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، قال: كنا عند عمر - فذكر الحديث، وفيه: ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه . وقد رواه عن سلمة بن كهيل : شعبة ، وسفيان ، والأعمش ، واختلف عنهم في إسناده . وقد تقدم: أن في رواية شعبة أن سلمة شك: هل ذكر فيه الذراعين، أو الكفين خاصة، وهذا يدل على أن ذكر الذراعين أو بعضهما لم يحفظه سلمة، إنما شك فيه، لكنه حفظ الكفين وتيقنهما، كما حفظه غيره . وعلى تقدير أن يكون ذكر بعض الذراعين محفوظا فقد يحمل على الاحتياط لدخول الكوعين، أو يكون من باب المبالغة وإطالة التحجيل، كما فعله أبو هريرة في الوضوء، وقد صرح الشافعية باستحبابه في التيمم - أيضا .

                                                                                                                                                                                          وقد روي عن قتادة ، قال: حدثني محدث عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار بن ياسر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إلى المرفقين " . خرجه أبو داود . وهذا الإسناد مجهول لا يثبت .

                                                                                                                                                                                          والصحيح: عن قتادة ، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن أبيه . عن عمار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين . [ ص: 410 ] خرجه الترمذي وصححه . وخرجه أبو داود ، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره في التيمم: ضربة واحدة للوجه والكفين . وقد روي عن عمار ، أنهم تيمموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط: من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن عمار ، قال: نزلت رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط . خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي . وقد اختلف في إسناده على الزهري : فقيل: عنه، كما ذكرنا . وقيل: عنه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبيه، عن عمار . كذا رواه عنه: مالك وابن عيينة، وصحح قولهما أبو زرعة وأبو حازم الرازيان . وقيل: عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عمار - مرسلا . وهذا حديث منكر جدا، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس -: ذكره الإمام أحمد وأبو داود [ ص: 411 ] وروي عن الزهري ، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم أسمعه إلا من عبيد الله ، وروي عنه، أنه قال: لا أدري ما هو؟! . وروي عن مكحول ، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث . وعن ابن عيينة ، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه . وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشيء - وقال - أيضا -: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه، وقال: ما أرى العمل عليه . وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية، لظنهم أن اليد المطلقة تشمل الكفين والذراعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وظن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بفعله . وقوله: "التيمم للوجه والكفين " فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمار راوي الحديث، فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين، كما رواه حصين، عن أبي مالك ، عنه، كما سبق .

                                                                                                                                                                                          وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة .

                                                                                                                                                                                          والثاني: ما قاله الشافعي ، وأنه إن كان ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو منسوخ، لأن عمارا أخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت آية التيمم، فكل تيمم كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده مخالف له، فهو له ناسخ . وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيره من العلماء . وقد حكى غير واحد من العلماء عن الزهري ، أنه كان يذهب إلى هذا [ ص: 412 ] الحديث الذي رواه .

                                                                                                                                                                                          وروي عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن الزهري قال: التيمم إلى الآباط، قال سعيد : ولا يعجبنا هذا . .

                                                                                                                                                                                          قلت: قد سبق عن الزهري أنه أنكر هذا القول، وأخبر أن الناس لا يعتبرون به، فالظاهر أنه رجع عنه لما علم إجماع العلماء على مخالفته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          وذهب كثير من العلماء إلى أنه ينتهي المسح لليدين بالتراب إلى المرفقين . هذا مروي عن ابن عمر وجابر - وروي - أيضا - عن سالم بن عبد الله ، والشعبي ، والحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وسفيان ، وابن المبارك . والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه . واستدل بعضهم: بالأحاديث المرفوعة المروية في ذلك، ولا يثبت منها شيء، كما سبق الإشارة إلى ذلك . واستدلوا - أيضا -: بأن الله تعالى أمر بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسح الوجه واليدين، فينصرف إطلاقهما في التيمم إلى تقييدهما في الوضوء، لا سيما وذلك في آية واحدة . فهو أولى من حمل المطلق علي المقيد في آيتين . وأجاب من خالفهم: بأن المطلق إنما يحمل على المقيد في قضية واحدة . والوضوء والتيمم طهارتان مختلفتان، فلا يصح حمل مطلق أحدهما على مقيد الآخر . ويدل على ذلك: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول آية التيمم لم يفهموا [ ص: 413 ] حمل المطلق على المقيد فيها، بل تيمموا إلى المناكب والآباط، وهم أعلم الناس بلغة العرب، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن التيمم للوجه والكفين، وهو - أيضا - ينافي حمل المطلق على المقيد فيها .

                                                                                                                                                                                          وذهب آخرون: إلى أن التيمم يمسح فيه الكفان خاصة . وقد حكى ابن المنذر لأهل هذه المقالة قولين: أحدهما: يمسح الكفين إلى الرسغين، وحكاه عن علي، والثاني: يمسح الكفين مطلقا، قال: هو قول عطاء ، ومكحول ، والشعبي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                                                                          قال: وبهذا نقول للثابت عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "التيمم ضربة للوجه والكفين " . قلت: هذا يوهم أن من قال بمسح الوجه والكفين، أنه لا ينتهي مسحهما إلى الكوعين، وهذا كما حكاه ابن عطية عن الشعبي ، كما سبق عنه، وليس هذا قول الأئمة المشهورين . وقد روى داود بن الحصين، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن التيمم، فقال: إن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وقال في التيمم: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقال: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فكانت السنة في القطع الكفين، إنما هو: الوجه والكفين - يعني: التيمم . خرجه الترمذي ، وقال: حسن صحيح غريب . وروى الحكم بن أبان، عن عكرمة هذا المعنى - أيضا . [ ص: 414 ] وكذلك استدل بهذا الدليل مكحول وأحمد وغيرهما من الأئمة، وقالوا: إن القطع يكون من الرسغ، فكذلك التيمم .

                                                                                                                                                                                          والرسغ: هو مفصل الكف، وله طرفان هما عظمان، فالذي يلي الإبهام كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع . ومضمون هذا الاستدلال: أن اليد إذا أطلقت انصرفت إلى الرسغ، وإن قيدت بموضع تقيدت به، فلما قيدت بالمرفقين في الوضوء وجب غسل الذراعين إلى المرفقين، ولما أطلقت في التيمم وجب إيصال التراب إلى الرسغ، كما تقطع يد السارق ويد المحارب منه .

                                                                                                                                                                                          وكذا قال الأوزاعي : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوعين . وكذلك نص إسحاق على أن التيمم يبلغ إلى الرسغ، وخطأ من قال: لا يجزئ ذلك . وقال: الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروف المشهور الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبار الصحيحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم عمار بن ياسر التيمم للوجه والكفين، قال: وعلى ذلك كان علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، ومكحول وغيرهم، فلا يجوز لأحد أن يدعي على هؤلاء أنهم لم يعرفوا التيمم . قال: ولو قالوا: الذراعين أحب إلينا اختيارا لكان أشبه . وروى حرب بإسناده، عن زائدة، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن أبي مالك ، عن عمار ، أنه غمس باطن كفيه بالتراب، ثم نفخ يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل . وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: [ ص: 415 ] التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين . قال: وثنا أحمد بن حنبل : ثنا سليمان بن حيان: أنبأ حجاج، عن عطاء والحكم، عن إبراهيم، قال: التيمم ضربتان للكفين والوجه . قال: وثنا محمود بن خالد : ثنا الوليد بن مسلم ، عن حامد وسعيد بن بشير، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين . قال الوليد: وأنبأ الأوزاعي ، عن عطاء ، أنه كان يقول في التيمم: مسحة واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لكفيه، وبه يأخذ الأوزاعي . وروى حرب بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال: سألت الشعبي عن التيمم; فضرب بيديه الأرض، ثم قرن إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه .

                                                                                                                                                                                          قال حرب: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، يقول: والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، يبدأ بوجهه، ثم يمسح كفيه إحداهما بالأخرى، قيل له: صح حديث عمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال: نعم، قد صح . والقول بأن الواجب في التيمم مسح الكفين فقط: رواية عن مالك ، وقول قديم للشافعي ، قال في القديم - فيما حكاه البيهقي في "كتاب المعرفة" -: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوجه والكفين، ولو أعلمه ثابتا لم أعده، قال: فإنه ثبت عن عمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفين ، ولم يثبت إلى المرفقين، فما يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، وبهذا كان يفتي سعيد بن سالم ، انتهى .

                                                                                                                                                                                          ومن العلماء من قال: الواجب مسح اليدين إلى الكوعين، ويستحب [ ص: 416 ] مسحهما إلى المرفقين، ولعله مراد كثير من السلف - أيضا - فإن منهم من روي عنه: إلى الكوعين، وروي عنه: إلى المرفقين، كالشعبي وغيره، فدل على أن الكل عندهم جائز . وهو - أيضا - رواية عن مالك ، وقول وكيع ، وإسحاق، وطائفة من أصحابنا، وحكوه رواية عن أحمد ، والمنصوص عنه يدل على أن ذلك جائز . لا أنه أفضل . وسيأتي ذكر الضربة الواحدة، والضربتين فيما بعد - إن شاء الله تعالى . فإن البخاري أفرد لذلك بابا .

                                                                                                                                                                                          * * *

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجنب إذا لم يجد الماء بأن يتيمم ويصلي، في حديث عمران بن حصين المتقدم، وحديث عمار ، وروي - أيضا - من حديث أبي ذر وغيره .

                                                                                                                                                                                          وشبهة المانعين: أن الله تعالى قال: ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وقال: وإن كنتم جنبا فاطهروا - يعني به: الغسل - ثم ذكر التيمم عند فقد الماء بعد ذكره الأحداث الناقضة للوضوء، فدل على أنه إنما رخص في التيمم عند عدم الماء لمن وجدت منه هذه الأحداث، وبقي الجنب مأمورا بالغسل بكل حال .

                                                                                                                                                                                          وهذا مردود; لوجهين:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: أن آية الوضوء افتتحت بذكر الوضوء، ثم بغسل الجنابة، ثم أمر [ ص: 417 ] بعد ذلك بالتيمم عند عدم الماء، فعاد إلى الحدثين معا . وإن قيل: إنه يعود إلى أحدهما، فعوده إلى غسل الجنابة أولى، لأنه أقربهما، فأما عوده إلى أبعدهم وهو - وضوء الصلاة - فممتنع .

                                                                                                                                                                                          وأما آية سورة النساء، فليس بها سوى ذكر الجنابة، وليس للوضوء فيها ذكر، فكيف يعود التيمم إلى غير مذكور فيها، ولا يعود إلى المذكور .

                                                                                                                                                                                          والثاني: أن كلتا الآيتين: أمر الله بالتيمم من جاء من الغائط، ولمس النساء أو لم يجد الماء، ولمس النساء إما أن يراد به الجماع خاصة، كما قاله ابن عباس وغيره، أو أنه يدخل فيه الجماع وما دونه من الملامسة لشهوة كما يقوله غيره، فأما أن يخص به ما دون الجماع ففيه بعد .

                                                                                                                                                                                          ولما أورد أبو موسى على ابن مسعود الآية تحير ولم يدر ما يقول، وهذا يدل على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما قاله أبو موسى . وفي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب العادم للماء أن يتيمم ويصلي دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم دخول الجنب في الآية، وليس بعد هذا شيء . ورد ابن مسعود تيمم الجنب، لأنه ذريعة إلى التيمم عند البرد; لم يوافق عليه، لأن النصوص لا ترد بسد الذرائع، وأيضا، فيقال: إن كان البرد يخشى معه التلف أو الضرر فإنه يجوز التيمم معه كما سبق . وقد روى شعبة ، أن مخارقا حدثهم، عن طارق، أن رجلا أجنب فلم يصل، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال له: "أصبت "، وأجنب رجل آخر فتيمم وصلى، فأتاه - صلى الله عليه وسلم -، فقال له نحوا مما قال للآخر - يعني: "أصبت " . [ ص: 418 ]

                                                                                                                                                                                          خرجه النسائي وهو مرسل .

                                                                                                                                                                                          وقد يحمل هذا على أن الأول سأله قبل نزول آية التيمم، والآخر سأله بعد نزولها .

                                                                                                                                                                                          وروى أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن الحكم، عن ذر، عن ابن أبزى ، عن أبيه أن عمارا قال لعمر : أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في سرية فأجنبنا ولم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت بالتراب وصليت، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرنا ذلك له، فقال: "أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع الصلاة، وأما أنت يا عمار فلم يكن لك أن تتمعك كما تتمعك الدابة، إنما كان يجزيك " - وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى الأرض إلى التراب، ثم قال: "هكذا"، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفصل . وليس فيه الذراعان

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية