الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 329 ] القول في تأويل قوله ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) )

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه " ، ووجه"خداع الله إياهم" ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، مع اختلاف المختلفين في ذلك .

فتأويل ذلك : إن المنافقين يخادعون الله ، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم ، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان ، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر ، استدراجا منه لهم في الدنيا ، حتى يلقوه في الآخرة ، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم ، كما : -

10721 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه ، فيقومون في ظلمتهم ، ويضرب بينهم بالسور .

10722 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : نزلت في عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان ، وفي المنافقين"يخادعون الله وهو خادعهم" ، قال : مثل قوله في"البقرة" : [ ص: 330 ] ( هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ) [ سورة البقرة : 9 ] . قال : وأما قوله : " وهو خادعهم " ، فيقول : في النور الذي يعطى المنافقون مع المؤمنين ، فيعطون النور ، فإذا بلغوا السور سلب ، وما ذكر الله من قوله ( انظرونا نقتبس من نوركم ) [ سورة الحديد : 13 ] . قال قوله : " وهو خادعهم " .

10723 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن : أنه كان إذا قرأ : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فينادونهم : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) إلى قوله : ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . قال الحسن : فذلك خديعة الله إياهم .

وأما قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، فإنه يعني : أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله ، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب ، وإنما يعملون ما عملوا [ ص: 331 ] من الأعمال الظاهرة إبقاء على أنفسهم ، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم . فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة ، قاموا كسالى إليها ، رياء للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم ، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم ، فهم في قيامهم إليها كسالى ، كما : -

10724 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " ، قال : والله لولا الناس ما صلى المنافق ، ولا يصلي إلا رياء وسمعة .

10725 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، قال : هم المنافقون ، لولا الرياء ما صلوا .

وأما قوله : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، فلعل قائلا أن يقول : وهل من ذكر الله شيء قليل ؟ .

قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدق بتوحيد الله ، مخلص له الربوبية . فلذلك سماه الله"قليلا" ، لأنه غير مقصود به الله ، ولا مبتغى به التقرب إلى الله ، ولا مراد به ثواب الله وما عنده . فهو ، وإن كثر ، من وجه نصب عامله وذاكره ، في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء .

[ ص: 332 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

10726 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب قال : قرأ الحسن : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل لأنه كان لغير الله .

10727 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل ذكر المنافق ، لأن الله لم يقبله . وكل ما رد الله قليل ، وكل ما قبل الله كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية