المتابع لمواقف بعض المثقفين العرب ، تجاه القضية الفلسطينية ، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالانتفاضة والعمليات المسلحة ، وبالأخص الاستشهادية . تصيبه الدهشة من المواقف الغرائبية ، التي تمارس وصايتها وفوقيتها على الشعب الفلسطيني المضحي والمقدام.
هذه الدهشة مصدرها كون هذه المواقف تنبع من مجموعة من المثقفين تعتبر ذاتها ذات نزعة تقدمية وحداثوية ، عقلانية ، تعتمد على الديمقراطية ، وتتلحف بجلباب الليبرالية.
من حق أي مثقف أن يكون له موقفه ورأيه ، ونظرته الذاتية لقضايا الساحة ، وفي المقابل على الطرف الآخر أن يحترم وجهة النظر هذه ويقدرها ، مهما كانت مخالفة ، ما دامت نابعة من رؤية علمية وموضوعية . وكل ذلك يقع في دائرة الاجتهادات الشخصية ، ولكن من غير السليم أن يمارس هذا الحق بنوع من القهرية والفوقية ، وكأن لا عقل ولا وعي لدى عموم الشارع الفلسطيني.
هذا الموقف السلبي تجاه الانتفاضة ، أخذ يتسارع ويأخذ وتيرة تصاعدية ، بعد الأحداث الإرهابية المشؤومة في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الأسود ، وكأن هؤلاء المثقفين ، أرادوها فرصة مواتية ليطلقوا ما في جعبتهم ، من نقد لاذع ، بل شتيمة تجاه الانتفاضة وفصائلها الوطنية والإسلامية . مبشرين بالقيامة السوداء ، وإبادة الشعب الفلسطيني ، إذا استمرت الانتفاضة ، ومرددين المقولات الشارونية الكريهة من اعتبار المقاومة الفلسطينية الإسلامية والوطنية إرهابًا دوليًا منظمًا ينبغي اجتثاثه.
ما معنى أن يتحد خطاب شارون ، والكيان الصهيوني مع خطاب بعض المثقفين العرب ؟ ، وما معنى أن يردد هؤلاء المثقفون الاتهامات الصهيونية للمقاومة الفلسطينية بالإرهاب ؟ ، ولماذا يكون بعضهم أشد حرصًا على السلام الإسرائيلي من إسرائيل ذاتها ، فتراهم يتسابقون للتنظير والحث على كبح جماح المقاومة الفلسطينية ، بل يذهبون لأبعد من ذلك ، عندما يرددون مقولات اليمين الصهيوني المتطرف ، من كون ياسر عرفات رجل أقوال لا أفعال ، وأنه أخطأ أخطاء جسيمة ويجب عليه أن يتداركها ، وإلا أوصل شعبه لكارثة أكبر مما هو فيها . هذا الخطاب الاستسلامي يقودنا لاستنتاج الآتي :
1) أن هناك قطاعًا من المثقفين العرب ، لا يزال يقبع في ضبابية الرؤية ، بل لنقل : إن الرؤية لديه غائبة أصلاً . غياب هذه الرؤية يدل على غياب وفقدان استراتيجية واعية ، بل يدل على خلل جسيم في أنمطة التفكير ، وأسلوب التعامل مع الأحداث وتحليلها . فبدلاً من أن يعكف المثقفون العرب على صوغ خطاب إعلامي متوازن وقوي ، يستطيع أن يوصل الظلامة العربية ، وخصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ، ويكون خطابًا إعلاميًا عالميًا ، يسند الانتفاضة ، نراهم يتماهون مع الخطاب الإسرائيلي ويرددون الكثير من مفرداته .
2) هذا الخلل في صوغ الخطاب الإعلامي ، أدى إلى انشغال بأمور ثانوية وجزئية ، وأدى إلى التباس في التعامل مع القضايا ، جعل التعامل معها تعاملاً انتقائيًا برغماتيًا ، قائمًا على الالتقاطية من جهة ، وجلد الذات من جهة ثانية ، فنرى بعضهم وممن لهم مواقف سلبية من المقدس الديني ، ومن دعاة الفصل التام بين الدنيوي والديني ، نراهم يلتقطون من النص الديني ، ما يخدم خطابهم السياسي والإعلامي ، كما يفعل العفيف الأخضر ، حينما يحتج بصلح الحديبية ، والسنة المحمدية ، في الوقت الذي لا يعترف هو ذاته من كون هذه السنة المحمدية التي يحتج بها سنة دين ودنيا ، في عملية تلفيقية برغماتية واضحة . أو ما يمارسه من اعتباره الشباب الفلسطيني الذي يمارس الانتفاضة شبابًا ضائعـًا متسكعًا ، قابعًا في الشوارع ، مأزومًا نفسيًا ، يعاني أزمات نفسية حادة تقوده لهذا السلوك العدواني ، محللاً بذلك النفسية الفلسطينية ، باعتبارها نفسية مأزومة ومريضة .
3) كان جيدًا لو توقف الأمر عند الموقف السلبي المنهزم ، بل تعداه لأمرين خطيرين ، الأول : تحريض بعض الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية ، وإعطاء مسوغ للحكومة الصهيونية ، لقمع الانتفاضة ومعاقبة مناضليها باعتبارهم أشخاصًا إرهابيين ، ينبغي اجتثاثهم . والأمر الآخر : ممارسة وصاية فوقية ، وكأن هؤلاء المثقفين يمتلكون الحق المطلق ، واقعين في المطب الذي ينتقدون فيه بعض الإسلاميين من أصحاب العقلية الغيبية في ممارساتهم ، بوصفهم نواب الله في أرضه ، وممثلين له ، فإذا هم ينصبون أنفسهم كنواب للسلام والعدل والحرية . متجاهلين بذلك الحق الشرعي والقانوني للشعوب في تحرير أوطانها والدفاع عن ذاتها بالوسائل المتاحة ، ومتعدين على قيم الديمقراطية ، أن يختار الشعب مصيره بنفسه ، بلا إكراه وإجبار ؟ ، فلماذا يقبل بعض المثقفين أن تكون للشواذ جنسيًا حقوقهم الكاملة في الغرب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولا يقبلون في المقابل أن يمارس الشعب الفلسطيني خياره الشعبي في الانتفاضة والمقاومة ، أليس هذا الخيار الديمقراطي حقًا يمارسه ؟ ، أم أن الشعب الفلسطيني لا يزال قاصرًا لم يبلغ سن الرشد ؟!
للمثقفين العرب أصحاب المواقف السلبية من الانتفاضة أن يكفوا عن هجائهم لها ، وأن يتركوا الشعب الفلسطيني يمارس خياره الذاتي بكل حرية ومن دون وصاية بطركية فوقية ، فإن لم يستطيعوا أن يقدموا له عونًا ، فمن الأفضل أن يتركوه وشأنه ، أقلها يجرب خياره الديمقراطي ، أم أن هذا الخيار محرم عليه؟ !