حينما يكون الإيمان بالله تعالى قويـًا يقدم صاحبه على تجشم الصعاب واقتحام المخاطر من أجل نصرة هذا الدين ، الذين آمن به وخالطت محبته شغاف قلبه ، فتبرز قوة الإيمان ، وتتفوق - رغم قلة العدد وضعف الإمكانات المادية - على كثرة العدد ووفرة القوة المادية .
فهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أحد علماء الصحابة ، الذي انتشر الإسلام على أيديهم وخرَّجوا أجيالاً من العلماء الربانيين ، نجده يتحدى زعماء قريش وهم في عزهم ودولتهم ، وهو الضعيف من ناحية العشيرة ، فيجهر بالقرآن أمامهم في المسجد الحرام ، ولم يكن يستطيع الجهر به آنذاك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلة عدد المسلمين وشدة الضغط عليهم من الكفار .
قال الزبير - رضي الله عنه - : " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - " .
قال : اجتمع يومـًا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ، قال : دعوني فإن الله سيمنعني". قال : فغدا ابن مسعود - رضي الله عنه - حتى أتى المقام ـ أي مقام إبراهيم ـ في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) رافعـًا بها صوته ، ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ )( الرحمن: 1 ، 2 ) ، قال : ثم استقبلها يقرؤها. قال : فتأملوا فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ - وكانت هذه كُنيته - قال : ثم قالوا : إنه يتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : " ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا ، قالوا : لا ، حسبك أن قد أسمعتهم ما يكرهون " .
وهكذا نجد أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في أول الإسلام هو أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة المكرمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرغم من كونه لا عشيرة له تحميه من أذى المشركين ، ونجد في هذه القصة أن إخوانه المؤمنين يذكِّرونه بذلك ، ويبينون له خطورة الأمر بالنسبة له ، ولكنه يصر على أن يجهر بالقرآن أمام زعماء قريش ، ويقول لإخوانه : دعوني فإن الله سيمنعني ، ونجد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بهذا الموقف يضرب مثلاً عاليـًا في التوكل على الله تعالى .
وإذا عظم ذكر الله سبحانه في قلب المؤمن هان عنده كل شيء ، فقد هان هؤلاء الكفار على ابن مسعود - رضي الله عنه - بالرغم من شراستهم وتحزبهم ضد دعوة الحق ، فتحداهم بما يكرهون ، وذلك لأن وجود الإيمان بالله عز وجل في قلبه كانت نسبته عالية جدًا ، بينما كان وجود هيبة الكفار في قلبه ضئيلاً جدًا ، فأقدم على مواجهتهم بذلك .
وبهذا نعلم أن الرهبة من أعداء الإسلام تتضخم في قلب المسلم بقدر تضاؤل وجود الإيمان بالله تعالى في قلبه ، بينما تتضاءل رهبته منهم بقدر قوة إيمانه بالله تعالى وهيمنة هذا الإيمان على مشاعره وسلوكه .
وقد تكّوَّن لديه - رضي الله عنه - من هذا الموقف الشجاع قدر عالٍ من الإيمان بالله تعالى ، إلى جانب ما تضاءل في نفسه من هيبتهم ، فأصبح مستعدًا لتحديهم مرة أخرى ، حيث قال لأصحابه : " ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا " .
وهكذا نجد أن الشجاعة في قول الحق تقوي الإيمان بالله تعالى وتضعف من هيبة الأعداء ومكانتهم .
فالحق لابد أن يظهر مهما حاول الطغاة تطويقه بما لديهم من قوة وجبروت ، قال تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )( التوبة:32 )