من الآيات التي تدخل في باب المتشابه اللفظي، لتكرار ألفاظها، مع اختلاف بسيط في تركيبها، آيات ثلاث هي : قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} (البقرة:144)، وقوله سبحانه: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك} (البقرة:149)، وقوله عز وجل: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} (البقرة:150). حيث يلاحظ أن الأمر بالتوجه قِبَل المسجد الحرام جاء ثلاث مرات، مع أن الأمر في واحدة كافٍ، فهل ثمة غرض وراء هذا التكرار؟
ذكر أهل هذا الشأن عدداً من التوجيهات، أرجعوا سبب التكرار إليها، وهي وفق التالي:
التوجيه الأول: أن كل أمر تكليفي إذا كان مما يتأكد وجوبه، فإنه يأتي ملحوظ من عدة جهات، منبهاً على ما يحقق مطلوبه، مدفوعاً عنه طرق الاحتمال؛ اعتناء منه سبحانه بهذه الأمة؛ لتحصل سلامتها من الأمر المحمول على من قبلها. فبنو إسرائيل إنما لحقهم الامتحان في أمر (البقرة) من جهة الإطلاق في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة:67)، فورد الأمر مطلقاً مع ما جُبِلَت عليه نفوسهم من التثاقل في تلقي الطاعات من المأمورات، فتابعوا لتحرير المطلوب منهم، وشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، وهذا ما حُفظت منه هذه الأمة. فقوله سبحانه في فريضة الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} (البقرة:183)، حدد مدة الصيام بشهر، وعين الشهر بالتسمية، وبيَّن وقت الإمساك بدءاً وانتهاء، وبيَّن الحكم مرضاً وسفراً، وأمر بتكميل العدة، إلى غير ذلك مما يحصل به المطلوب، ويرفع حكم الإشكال والسؤال. وجرى الحال في أمر القبلة كذلك؛ فقوله تعالى أولاً بالتوجه قِبَل البيت: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} فيه احتمال أن يكون الأمر خاصاً به صلى الله عليه وسلم، أو عاماً له ولأمته. وأَمْرُه بعدُ في الآية نفسها: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أمرٌ يدفع احتمال خصوصه صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحصل مع قوله: {وحيثما كنتم} أن ذلك لا يختص بمكان دون مكان. وقوله سبحانه ثانياً: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} جاء ليُخبر أن حكم التوجه إلى القبلة هو حكم عام، يعم حالتي الإقامة والسفر. وقوله عز وجل ثالثاً: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}، جاء ليحصل منه التوكيد، وبناء ما بعده عليه، وهو قوله: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، أي: وحيثما كنتم من البلاد والمواضع التي خرجتم إليها حيث كانت من الأرض كلها. هذا التوجيه ذكره ابن الزبير الغرناطي في كتابه (ملاك التأويل).
التوجيه الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات؛ لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة؛ أما أولاً، فقد بيَّن أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر هذه القبلة حق؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل. وأما ثانياً، فبيَّن تعالى أنه يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً. وأما ثالثاً، فبيَّن سبحانه أنه إنما فعل ذلك {لئلا يكون للناس عليكم حجة}، فلما اختلفت هذه الفوائد، حسنت إعادتها؛ ليترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظير هذا قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} (البقرة:79). ذكر هذا التوجيه الرازي.
التوجيه الثالث: أنه تعالى قال أولاً: {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك؛ طلباً لرضا محمد صلى الله عليه وسلم، فأزال سبحانه هذا الوهم الفاسد بقوله ثانياً: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك}، أي: ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة، التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم إنه تعالى قال ثالثاً: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، طلباً للمداومة على استقبال هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، وعدم التولية عنها، فتصير تلك التولية سبباً للطعن في الدين. وهذا التوجيه ذكره الرازي أيضاً.
التوجيه الرابع: أن الآية الأولى قُرنت بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام. والثانية قُرنت بما يدل على أن لكل صاحب ملة قبلة يتوجه إليها، فأمروا من ثم بالتوجه إلى أشرف الجهات، التي يعلم الله تعالى أنها حق. أما الثالثة فقُرنت بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة. فكانت هذه عللاً ثلاثاً، قُرِن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة. نظير هذا أن يقال: الزم هذه القبلة؛ فإنها القبلة التي كنت تهواها. ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. ثم يقال: الزم هذه القبلة؛ فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك. وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن:13)، وكذلك التكرار في قوله تعالى: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} (الشعراء:174). وهذا التوجيه ذكره الرازي، وتابعه الآلوسي.
التوجيه الخامس: أن واقعة تحويل القبلة كانت أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار؛ لأجل التأكيد، والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاح البينات. قال ابن عاشور: "وتأكيداً لدلالة الأمر التشريعي على التكرار؛ تنويهاً بشأن هذا الحكم، فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم، أولاهما: إجمالية. والثانية: تفصيلية". وقال أيضاً: "وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين. وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله؛ التنويه بشأن استقبال الكعبة؛ والتحذير من تطرق التساهل في ذلك؛ تقريراً للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين، التأكيد من زيادة {ومن حيث خرجت}، ومن جُمَل معترضة؛ لزيادة التنويه بحكم الاستقبال، وهي جملة: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون}، وجملة: {وإنه للحق من ربك}، وجملة: {لئلا يكون للناس عليكم حجة}، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك؛ لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميماً، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه؛ لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام". وهذا التوجيه ذكره غير واحد من المفسرين.
وقد ذكروا توجيهات أُخر في سبب التكرار في هذه الآيات، بيد أنها توجيهات لا ترقى إلى القول بها؛ كقولهم: إن الأحوال ثلاثة: كونه في المسجد، وكونه في البلد خارج المسجد، وكونه خارج البلد، فكل آية منها محمولة على حال من هذه الأحوال الثلاثة . قال الآلوسي: ولا يخفى أنه مجرد تشهٍ، لا يقوم عليه دليل.