جاء القرآن ليكون هداية للناس في ظلمات هذه الحياة، ونبراساً يضيء لهم الطريق إلى الدار الباقية. وقد تضمن من الأحكام والأخبار والوصايا ما يرشد الإنسان إلى طريق الخير، ويبعده عن طريق الشر، ويخرجه من ظلمات الجهل، ويأخذ بيده إلى نور العلم.
والمتأمل في سور الكتاب الكريم، والمتدبر لآياته بما تضمنته من أحكام وأخبار ووصايا، يجد أنه اهتم بشكل رئيس بمقاصد هذا الدين عامة، وكلياته الأساسية، ولم يُعرج على تفاصيل الأحكام إلا في مواضع قليلة ومواطن محددة؛ وذلك أن القرآن كتاب كل زمان ومكان، وكتاب الماضي والحاضر والمستقبل، فاقتضى الحال أن يكون خطابه عاماً وكليًّا، وبما هو أساسي ومقصدي، ومن هنا جاءت كل سورة من سوره تبرز مقصداً رئيساً، وهدفاً كليًّا تدور حوله السورة، وتحوم عليه، إبرازاً له وتأكيداً عليه.
وقد تنبه العلماء -المتقدمون منهم والمتأخرون- على المنحى المقصدي في القرآن، فتحدثوا عنه إجمالاً وتفصيلاً، وأصالة وتبعاً، إلى أن تشكل لديهم علم مهم، له ملامحه ومعالمه، وهو علم مقاصد وأغراض سور القرآن.
تعريف علم مقاصد السور
علم مقاصد القرآن: يقصد منه الوقوف على المعاني والأغراض الأساسية والموضوعات الرئيسة التي تدور عليها سورة معينة. وقد يُعبِّر المفسرون عن مصطلح (مقاصد السور) بمصطلحات أُخر، مثل: مغزى السورة، أو غرض السورة، أو الوحدة الموضوعية، أو نحو ذلك.
أهمية علم مقاصد السور
تنبع أهمية هذا العلم من كونه وسيلة لتحقيق المقصد من إنزال هذا القرآن كله وهو تدبره والاهتداء بما تضمنه؛ وذلك لأن التدبر لا يكون إلا بعد فهم المعاني، ومقصد كل سورة هو أصل معانيها الذي ترجع إليه.
كما أن وقوف المفسِّر على مقاصد السور يسدد ذهنه ويعصمه من الخطأ في تفسيرها؛ لأنه يتقيد في توجيه الآيات وَفقًا لهذا المقصد، وبيان ذلك أن مقصد كل سورة إنما يقف عليه المفسر بعد استقراء آياتها والتأمل العميق فيما تدل عليه معان تحقق مراد الله تعالى من كلامه، وذلك بالنظر في فواتح السورة وخواتيمها، وسياق وسباق آياتها ولحاقها، وألفاظها.
ثم إن الاعتناء بعلم مقاصد السور القرآنية يؤدي حتمًا إلى اليقين بعصمة القرآن ورسوخِ الإيمان بأنه كلام الله حقًا، فتشرق النفس وتقر العين ويزداد نور القلب.
وعلى هذا فإن تفسير القرآن باعتبار مقاصد السور يعتبر هو المنهج الأسلم الذي يجعل كلام الله منتظمًا على نحو يتضح فيه جليًّا كمال نظمه واتساق آياته، ويبرز إعجازه وبلاغته؛ قال البقاعي: "ومن حقق المقصود من السورة، عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها".
أدلة اعتبار مقاصد السور
استدل العلماء المتتبعين لمنحى القرآن المقصدي بجملة من الأدلة، هي:
أولاً: كون القرآن مقسمًا على سور منفصلة كل منها لها مضمون خاص يختلف من سورة لأخرى، وذلك مع كونه محكمًا في لفظه ومعناه، فهذا فيه إشارة إلى أن لكل سورة مقصدًا اقتضى الإِحكام تخصيصها به. ويؤكد ذلك أن الله لم يتحد الكافرين بأقل من سورة؛ لأنها معجزة بتمامها وكمالها.
ثانياً: افتراق القرآن المدني عن المكي في القضايا التي يعرضها ويناقشها من أعظم الدلائل على اعتبار المقاصد للسور القرآنية.
ثالثاً: كون كل سورة من سور القرآن لها اسم خاص بها يشير إلى المعاني التي تضمنتها، مع كون أسماء السور القرآنية توقيفية (على قول الجمهور)، كما قرر ذلك السيوطي في "الإتقان".
طرق الوقوف على مقاصد السور
هناك طرق يمكن من خلالها إدراك مقاصد السور القرآنية؛ منها:
أن ينص أحد العلماء المعروفين بالتحقيق في العلم أن موضوع هذه السورة كذا، مثال ذلك: قول بعض العلماء عن (سورة الإخلاص) أنها تُقرر التوحيد العلمي الخبري من خلال ذكر بعض صفات الله عز وجل، بينما (سورة الكافرون) تُقرر التوحيد الطلبي الإرادي من خلال إفراد الله بالعبادة، أو أن المقصود الأعظم لـ (سورة النحل) هو تعداد النعم، وأن (سورة العنكبوت) في الفتنة، وأن (سورة الكهف) في الابتلاء، وهكذا.
ومن طرق معرفة مقاصد السور القرآنية أيضًا: أن يكون موضوع السورة ظاهراً من مطلعها وفواتحها، فيظهر للمفسر أن كل السورة مبني على أولها، وفواتحها مؤثرة في موضوعها ومقصودها؛ مثال ذلك: (سورة القيامة)، فإن مطلعها: {لا أقسم بيوم القيامة}، ثم إن كل ما فيها هو ذكر لأحوال يوم القيامة وما يسبقه من الموت، ووسائل الإيمان بيوم القيامة، ولابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" تأكيد على تأثير مطالع السور -ولو كانت حروفًا- على ما تتضمنه تلك السور من معانٍ.
قال البقاعي في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور": "وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجِم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسمَّاه عنوانه الدال إجمالاً على تفصيل ما فيه".
ومن طرق معرفة مقاصد السور أيضًا: استقراء المفسر لآيات كل سورة، وذلك للوقوف على الجو الخاص الذي يظلل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات.
التصنيف في علم مقاصد السور
لم يفرد الأئمة المتقدمون هذا العلم بتصنيف مستقل، وإنما ضمَّنوه مصنفاتهم في التفسير وعلوم القرآن، واعتنى بذلك المتأخرون، وذلك شأن جميع العلوم التي تنشأ مختلطة بغيرها، ثم يأتي المتأخرون فيمعنون النظر، ويزيلون الالتباس، ويفكون الاشتباك بين أنواع تلك العلوم. وهذا العلم يعتبر تطوراً طبيعياً لعلم نشأ قبله وهو علم: التناسب بين آيات وسور القرآن.
والملاحظ في هذا الصدد، أن بعض المفسرين اكتفى بالإشارة إلى مقاصد السور القرآنية دون التنصيص على ذلك، مثل: الإمام الطبري وابن كثير. وبعضهم صرَّح بمقصد السورة دون أن يكون له منهج محدد في هذا الشأن، كالرازي، وابن تيمية، وابن القيم، كما أن الإمام الزركشي كتب أبواباً في كتابه "البرهان" متعلقة بمقاصد السور والتناسب بينها، تعتبر على قصرها كالتأصيل لهذا العلم.
وهناك من المفسرين من كانت له عناية بذكر مقاصد السور، واتخذ لذلك منهجاً في تفسيره، كالفيروزآبادي في كتابه "بصائر ذوي التمييز"، والبقاعي في كتابيه: "مصاعدالنظر للإشراف على مقاصد السور" و"نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، وفي هذا الكتاب الأخير التزم البقاعي أن يذكر مقصد السورة ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها وما بعدها من السور. واعتنى الإمام السيوطي في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن" بذكر وجوه إعجاز العلم بالمقاصد وتناسب الآيات والسور.
والاهتمام الأبرز في العلم كان من المفسرين المعاصرين، أمثال: الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير"، وسيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن"، وسعيد حوى في كتابه "الأساس في التفسير".
ومن أشهر المؤلفات المعاصرة في بيان علم مقاصد السور القرآنية: كتاب "مدخل إلى علم مقاصد السور" للدكتور محمد عبد الله الربيعة. وكتاب "مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير" للشيخ صالح آل الشيخ.
ولا شك، فإن الحاجة داعية لبذل مزيد من الجهد ليأخذ هذا العلم مكانه ضمن منظومة علوم القرآن؛ حتى نكون قد أدينا جزءًا من واجبنا تجاه هذا الكتاب العظيم، الذي اختصنا الله تعالى به دون سائر الأمم.