جاء في قصة عيسى عليه السلام في القرآن الكريم عددٌ من الآيات التي تستدعي بعض الوقفات للتوضيح والتعليق، نسوق تلك الآيات على النحو التالي:
أولاً: قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران:59).
لسائل أن يسأل هنا: كيف شُبِّه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام، وقد وُجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟.
أجاب الزمخشري على هذا السؤال، فقال: هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وُجد وجوداً خارجاً عن العادة والمألوف، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته، إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وهذا يسمى بقياس الأولى، وهو من أقوى درجات القياس. قال ابن عاشور: "ومحل التمثيل كون كليهما خُلق من دون أب، ويزيد آدمُ بكونه من دون أم أيضاً، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله: {خلقه من تراب}، أي: خلقه دون أب ولا أم، بل بكلمة {كن}، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب".
ثانياً: قوله سبحانه: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:118).
قال ابن كثير معقباً على هذه الآية: "هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء:23). ويتضمن التبري من النصارى، الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} (الإسراء:43)، وهذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها. وقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قام صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها، ويسجد بها: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها؟ قال: (إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً).
وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية؛ فقيل: قال عيسى هذا القول على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يستعطف السيد لعبده؛ ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله سبحانه، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر.
وقيل: الضمير في قوله: {إن تعذبهم} يعود على من مات منهم على الكفر. والضمير في قوله: {وإن تغفر لهم} لمن تاب منهم قبل الموت. قال القرطبي: وهذا حسن.
وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عمود دينه، فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي.
قال القرطبي: "وأما قول من قال: إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يُغفر له، فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ".
وقد قال تعالى: {فإنك أنت العزيز الحكيم} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه، وذلك مستحيل؛ فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك، فتغفر لهم، {فإنك أنت العزيز} الذي لا يمتنع عليك ما تريده، {الحكيم} فيما تفعله؛ تضل من تشاء، وتهدي من تشاء.
قال بعض أهل العلم: قد طعن على القرآن من قال إن قوله سبحانه: {فإنك أنت العزيز الحكيم} ليس بمشاكل لقوله: {وإن تغفر لهم}؛ لأن الذي يشاكل (المغفرة): (فإنك أنت الغفور الرحيم)، والجواب: أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله، ومتى نُقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإن (الغفور الرحيم) ينفرد بالشرط الثاني {وإن تغفر لهم}، فلا يكون له بالشرط الأول تعلق {إن تعذبهم}، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما؛ إذ تلخيصه {إن تعذبهم} فإنك أنت عزيز حكيم، {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكان {العزيز الحكيم} أليق بهذا المكان لعمومه؛ فإنه يجمع الشرطين {إن تعذبهم} {وإن تغفر لهم}، ولم يصلح (الغفور الرحيم)؛ إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله {العزيز الحكيم}، وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض.
ثالثاً: لسائل أن يسأل : إنه تعالى قال في آية المائدة: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} (المائدة:110)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق؟.
أجاب الرازي عن هذا، فقال: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمين والتبع للأم. ولذلك قال تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} {المؤمنون:50)، فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر.
رابعاً: قوله تعالى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (المائدة:112).
يتعلق بهذه الآية مسألتان: أولهما: حول سؤال الحواريين. وثانيهما: حول نزول المائدة.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى: اختلف أهل التفسير في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم، ومنشأ اختلافهم قوله سبحانه: {هل يستطيع ربك}، فإن هذا القول يشعر بشكهم في قدرة الله سبحانه على إنزال المائدة.
فذهب فريق من المفسرين في مقدمتهم الزمخشري إلى عدم إيمانهم، واعتبر هذا الفريق أن قول الحواريين السابق على هذه الآية {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة:111) إنما كان دعوى منهم من غير إيقان وإذعان، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم، لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام: {هل يستطيع ربك}، قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: كيف قالوا: {هل يستطيع ربك} بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: {إذ قالوا} فآذن أن دعواهم كانت باطلة، وأنهم كانوا شاكين. وقولهم: {هل يستطيع ربك} كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم {اتقوا الله} (المائدة:112)، معناه: اتقوا الله، ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها {إن كنتم مؤمنين} (المائدة:112)، إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة".
وذهب جمهور المفسرين إلى أن الحواريين عندما قالوا لعيسى عليه السلام: {هل يستطيع ربك}، كانوا مؤمنين؛ إذ إن قولهم هذا لا يسحب عنهم صفة الإيمان؛ لأنهم ما قالوا هذا من باب الشك في قدرة الله، وإنما من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري، بدليل قولهم بعدُ: {وتطمئن قلوبنا} (المائدة:113)، كقول إبراهيم عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة:260). وأيضاً فإن سؤالهم إنما كان عن الفعل لا عن القدرة عليه، قال الحسن: إن معنى {هل يستطيع}، أي: هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم معي مبالغة في التقاضي. قال الآلوسي: والتعبير عن الفعل بـ (الاستطاعة) من التعبير عن المسبب بالسبب؛ إذ هي من أسباب الإيجاد. وقالوا أيضاً: إن (الاستطاعة) في الآية بمعنى (الإطاعة)، قال السدي: {هل يستطيع ربك} أي: هل يطيعك ربك إن سألته. قال الرازي: وهذا تفريع على أن (استطاع) بمعنى (أطاع)، والسين زائدة.
أما ما يتعلق بالمسألة الثانية في هذه الآية، فهو نزول المائدة؛ فالجمهور على أنها نزلت، وقد رجح ذلك الطبري، فقال ما حاصله: والصواب من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه؛ فإنه تعالى ذكره لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخُلْف، وقد قال تعالى ذكره مخبراً في كتابه عن إجابة نبيه عيسى عليه السلام حين سأله ما سأله من ذلك: {إني منزلها عليكم} (المائدة:115)، وغير جائز أن يقول تعالى: {إني منزلها عليكم}، ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه تعالى خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر، ولو جاز أن يقول: {إني منزلها عليكم}، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} (المائدة:115)، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك.
قال ابن كثير معقباً على قول الطبري رحمه الله: "وهذا القول هو -والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم".
هذا، والذي يراجع بعض كتب التفسير يقرأ عجباً عن كيفية نزول المائدة، ومكان نزولها، وعن كيفية استقبالها، وكشف غطائها، وما كان عليها من أصناف الطعام، والأكل منها، والباقي عليها بعد الأكل، ونحو ذلك من الكلام الذي لا خير في ذكره والوقوف عليه؛ لضعف سنده، وعدم تعلق فائدة ترجى من ورائه. وقد ذكر ابن كثير أثراً طويلاً في هذا الصدد، ثم قال معقباً عليه: هذا أثر غريب جداً، قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له؛ ليكون سياقه أتم وأكمل.
والمهم في هذا المقام ما قاله الطبري رحمه الله: "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول؛ وجائز أن يكون كان سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون كان ثمراً من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل".
ويشار هنا إلى قول مقابل لرأي الجمهور، وهو قول الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل، وقد روى الطبري عنهما ما يفيد عدم نزولها، لكن المعول عليه قول الجمهور المتقدم؛ لأن ظاهر الآيات تؤيده، وكذلك الآثار الصحيحة التي وردت في ذلك.
خامساً: قوله سبحانه: {إني متوفيك ورافعك إلي} (آل عمران:55).
ذكرنا ضمن الحديث عن قصة عيسى أن الصواب من القول في قوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي}: قابضك من الأرض، ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك معاً. قال القرطبي: "الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس". وذهب فريق من أهل العلم إلى أن معنى {متوفيك ورافعك}، أي: مميتك، ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتي. فـ (الرفع) بحسب هذا القول رفع معنوي فحسب.
بيد أن بعض المفسرين ذكر أقوالاً أخرى للعلماء في معنى قوله سبحانه: {متوفيك ورافعك إلي}، فقد ذكر الآلوسي ثمانية أوجه للمراد من قوله تعالى: {متوفيك ورافعك إلي}، كالقول: إن الله سبحانه توفى عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إلى السماء. والقول: إن المراد بـ (التوفي) النوم، على حد قوله سبحانه: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (الأنعام:60). والقول: إن المراد بـ (الوفاة) موت القوى الشهوانية. وغير ذلك من الأقوال. ثم عقب الآلوسي على ذلك بقوله: "ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بُعْد". وقال أيضاً: "وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات، ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل، وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم".
والصواب أن الخوض في المراد من (التوفي) في الآية على غير المعنى الذي ذكره الجمهور، لا طائل من ورائه، ولا ينبغي إطالة الوقوف عنده؛ لضعف مستنده.
سادساً: قوله تعالى: {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} (آل عمران:63).
قد يرد سؤال يتعلق بهذه الآية حاصله: لماذا قال لهم عيسى عليه السلام: {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه}، وهلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه؟ أجاب الزمخشري عن ذلك فقال: "كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بُعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم". وأجاب الرازي عن هذا فقال: "إن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها، فلا يجب على الرسول بيانها". وقال الآلوسي: "وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف، دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها، ككيفية نضد الأفلاك، وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلاً، فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك. ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا، ككيفية الزراعة، وما يصلح الزرع وما يفسده مثلاً، فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضاً، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، رواه مسلم".