الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"( رواه الترمذي وقال:حسن صحيح).
فهذا مثل عظيم جدا ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان فساد دين المرء مع حرصه على المال والشرف أي الرفعة في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقل من فساد الغنم التي غاب عنها رعاؤها وأرسل فيها ذئبان جائعان، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.
فأما الحرص على المال فهو نوعان: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه مع الجهد والمشقة ، ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي يمكن أن يشتري به صاحبه الدرجات العلى والنعيم المقيم ، في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ، ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره.
قيل لبعض الحكماء: إن فلانا جمع مالا، قال: فهل جمع أياما ينفقه فيها ؟ قيل :لا، قال: ما جمع شيئا.
كان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصا على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غدا في المعاد ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرص حرصان حرص فاجع وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته.
قال بعضهم:
لا تغبطن أخا حرص على طمع وانظـر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغـول بثروته عن السرور لما يحوي من المال
قال آخر:
يا جامعا مانعا والـدهر يرمقه مفكرا أي باب منه يغلقه
جمعت مالا ففكرهل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مـخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يأل في طلب مما يؤرقه
كتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصا على الدنيا: أما بعد فإنك قد أصبحت حريصا على الدنيا تخدمها، وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصا محروما، أو زاهدا مرزوقا، ولا ميتا عن كثير، ولا متبلغا من الدنيا باليسير.
عاتب أعرابي أخا له على الحرص فقال له: يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب من قد كفيته.
وأنشد بعضهم:
حتى متى أنت في حل وترحال وطـول سمـع وإدبـار وإقــبال
ونازح الـدار لا ينفك مـغتربا عـن الأحبـة لا يـدرون بالـحال
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة إن الـقنوع الـغنى لا كـثرة المال
النوع الثاني من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم قال الله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }[الحشر:9].
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" (رواه أبو داود)
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم".
أما الحرص على الشرف فهو أشد إهلاكا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف.
والحرص على الشرف نوعان:
أحدهما: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين }[القصص:82].
وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها" ( البخاري).
قال بعض السلف: ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة" ( البخاري).
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلين قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أمرنا ، قال : "إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه " (البخاري ومسلم).
ومن دقيق حب الشرف طلب الولايات لمجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه وذلهم في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}[الأنعام:42].
وقال: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون }[الأعراف:94].
فهذه الأمور أصعب وأخطر من مجرد الظلم، وأدهى وأمر من الشرك، والشرك أعظم الظلم عند الله.
ومن دقيق الحرص على الشرف كذلك أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله، ويثنى عليه بها ويطلب من الناس ذلك ، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وهذا يدخل في قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب }[آل عمران:188].
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أفعالهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابا يقرأ عليهم وفيه أمر بالإحسان إليهم وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب ولا تحمدوا على ذلك إلا الله فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري.
وحكايته مع المرأة التي طلبت منه أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات ففرض لاثنتين منهن وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته فقال إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة.
وفي المقال القادم إن شاء الله نتعرف على نوع آخر من طلب الشرف على الناس، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.