قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) (البقرة:185).
القول في هذه الآية تنظمه عشر مسائل:
الأولى: (الشهر) مشتق من الشُّهرة؛ لأن الهلال يظهر لملتمسيه، فيشهرونه؛ ليراه الناس، فيثبت الشهر عندهم، و(رمضان) عَلَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج. و(رمضان) ممنوع من الصرف؛ للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء، وهي الحرارة؛ لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب.
قال ابن عاشور: "وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره؛ إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم؛ وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال: رمضان لكان ظاهراً لا نصاً، لا سيما مع تقدم قوله {أياما} فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان". والمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية، هو الذي جُعِلَ ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين، فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان، فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه.
الثانية: المراد بإنزال القرآن في (شهر رمضان) ابتداء إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيه ابتداء النزول، فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به، كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله سبحانه: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) (الأنعام:92)، وذلك قبل إكمال نزوله، فيشمل كل ما يلحق به من بعد.
قال القرطبي: "ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر جملة واحدة، فوُضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجماً نجماً في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوماً -يعني الآية والآيتين- في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة".
واختير شهر رمضان من بين الأشهر؛ لأنه قد شَرُفَ بنزول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها، ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعاً فيه.
الثالثة: قوله تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) إشارة إلى وجه تفضيل شهر رمضان بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان، والمراد بـ(الهدى) الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي، الذي ينكره كثير من الناس، مثل أدلة التوحيد، وصدق الرسول، وغير ذلك من الحجج القرآنية.
و(الفرقان) مصدر (فَرَقَ)، وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل، أي: إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله، وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام.
الرابعة: و(شهد) يجوز أن يكون بمعنى (حضر) كما يقال: إن فلاناً شهد بدراً، وشهد أحداً، أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: حضرها، والمعنى على هذا: حضر في الشهر، أي لم يكن مسافراً، وهو المناسب لقوله بعده: (ومن كان مريضا أو على سفر)، أي: فمن حضر في الشهر، فليصمه كله.
ويجوز أن يكون (شهد) بمعنى (علم)، كقوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) (آل عمران:18)، ويكون المعنى: علم بحلول الشهر، وليس (شهد) بمعنى (رأى)؛ لأنه لا يقال: شهد بمعنى رأى، وإنما يقال: شاهد، ومن فهم قوله سبحانه: (شهد) بمعنى (رأى) فقد أخطأ خطأ بيِّناً، وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان، فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم، وهذا باطل.
قال جمهور الأمة: "من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيماً، فإن سافر أفطر"، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة، وقد ترجم البخاري لهذا، فقال: "باب: إذا صام أياماً من رمضان، ثم سافر"..عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر، فأفطر الناس.
ثم قال الحنفية: مَن (شهد) الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر، فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جنَّ أول الشهر وآخره، فإنه يقضي أيام جنونه. قالوا: وإذا أسلم الكافر، أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان بعد الفجر استحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر، ولا اليوم الذي بلغ فيه الصبي، أو أسلم الكافر.
وقال جمهور أهل العلم: ليس عليه قضاء ما مضى؛ لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. قال القرطبي: "الصحيح لا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم، ولا قضاء ما مضى".
الخامسة: قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا) قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله سبحانه: (فمن كان منكم مريضا): إنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي (كتب عليكم الصيام)، وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها، فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله: (شهر رمضان)، وصار الصوم واجباً على التعيين، خيف أن يظن الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نُسخ، فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر، فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة؛ تصريحاً ببقاء تلك الرخصة، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير، وهذا بناء على كون هذه الآية ناسخة للتي قبلها.
فإن قلنا: إنهما نزلتا في وقت واحد، كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: (ومن كان مريضا)؛ لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة؛ رفقاً بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) إذا كان {شهد} بمعنى (تحقق) و(علم)، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة؛ ولزيادة بيان معنى قوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
ثم إن للمريض حالتين: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال؛ فعليه الفطر واجباً. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة؛ فهذا يُستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر؛ قياساً على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدعُ إلى الفطر ضرورة. وقال جمهور أهل العلم: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف تزيُّده صح له الفطر. قال القرطبي: "قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب، إن شاء الله تعالى".
السادسة: قوله سبحانه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) تعليل لقوله سبحانه: (ومن كان مريضا أو على سفر)، وبيان للحكمة من الرخصة، أي: شرع لكم القضاء؛ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة، ولا يريد بكم العسر في التكاليف. وجوز ابن عاشور أن يكون تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله: (كتب عليكم الصيام) إلى هنا، فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام -وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر- فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر، أي: تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.
السابعة: قوله سبحانه: (ولتكملوا العدة) المعنى: يريد الله أن تكملوا العدة، و(إكمال العدة) يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم؛ ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع، وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف. وقد يراد بـ (إكمال العدة) إكمال عدة الهلال، سواء كانت تسعاً وعشرين يوماً أو ثلاثين. قال العلماء: ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهاراً، بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد روى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً صُبْحَ ثلاثين يوماً، فرأى هلال شوال نهاراً، فلم يفطر حتى أمسى). أخرجه الدار قطني.
الثامنة: قوله سبحانه: (ولتكبروا الله) تعليل لحكمة متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى، وهو أن يكبروه. والمراد بـ (التكبير) النسبة والتوصيف، أي: أن تنسبوا الله إلى الكِبَر، و(الكبر) هنا كبر معنوي لا جسمي، فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي: لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: الله أكبر، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع، كالحكماء، والملوك، والسادة، والقادة، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالإلهية؛ لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه، والناقص غير مستحق للإلهية.
وقد روي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال الشافعي: وتُشَبَّه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك والشافعي. وروى الدار قطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى.
قال القرطبي: "وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر". وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى، وحين يخرج الإمام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى، ولا يكبر في الفطر.
قال ابن عاشور: "وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة؛ وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يُعْبَدُ بالصوم، وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام".
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلته مما يريده الله، وهو غير مفصل في لفظ التكبير، ومجمل في وقت التكبير؛ وعدده، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال. فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر (الله أكبر) ثلاثاً، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلاً وتحميداً، فهو حسن، ولا يترك (الله أكبر)، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين، ثم قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. وقال أحمد: هو واسع. وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.
التاسعة: قوله سبحانه: (على ما هداكم) قيل: لِمَا ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلاً عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب والأنساب، وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام.
العاشرة: قوله عز وجل: (ولعلكم تشكرون) تعليل آخر، وهو أعم من مضمون جملة (ولتكبروا الله على ما هداكم )، فإن التكبير تعظيم، يتضمن شكراً، والشكر أعم؛ لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى، ويكون بفعل القُرَب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر.