وقف سائحٌ أوروبي مسلم على قمّة أحد الكثبان الرمليّة في الصحراء العربيّة، وأطلق بصره يمنةً ويسرة، فلم تلامس عيناه سوى لون الصفرةِ وتدرّجاتها، وكانت عناصر المشهد من حولِه: صخورٌ بركانيّة، وأعشابٌ صحراويّةٌ تتباين عن تلك الموجودة في الأراضي الخصبة، وأشجارٌ قليلةُ الأوراق، كثيرةُ الأشواك.
ولم يجد السائح للحياة مظهراً إلا من خلال بعض الطيور أو الهوام، والشمسُ لها حضورٌ قويّ بأشعّتها التي تُغشي الأبصار وتُلهب الأرض، علاوةً على ندرة الماء إلا من خلال بئرٍ هنا وواحةٍ هناك، ولم يكن ليتخيل للحظة واحدة أن هذه الصحراء القاحلة كانت في يوم من الأيام متدثّرةً ببساطٍ أخضرَ يتخلّله وشْيٌ من الزهور والورود وكانت الأنهار والجداول تنساب بين المروج في لوحة رائعة لجنان الجزيرة العربيّة المفقودة، على نحوٍ يستثير المشاعر والخواطر.
وما بين خُضرة الماضي، وصفرةِ الحاضر، تقفُ معجزةٌ نبويّة خبريّة، تتعلّق بالكشف عن الحال المناخي للجزيرة العربيّة في الماضي السحيق، بما لا يمكن معرفته ولا استنتاجه بمحض المنهج التجريبي القائم على الرصد والملاحظة والاستنتاج، ولم تكن ثمّة دلائل تساعد على بناء التصوّر المناخي في عصر النبوّة، ولكن تمّ الوصول إلى حقيقة الأمر من خلال الوحي السماوي الذي قصّ علينا أنباء ما قد سبق، وجزمَ بعودةٍ أخرى لتلك المشاهد في جزيرة العرب .
ومع شرطٍ من أشراط الساعة، يُقلّب سجلاّت الماضي، ويكشف عن حقائق المستقبل، يرويه لناأبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا) رواه مسلم.
إن كلّ من عاش "قسوة الحاضر" يُدرك المناخ الصحراوي لشبه الجزيرة العربيّة، وذلك بسبب وقوعها بين خطّي عرض 12-32 شمال خطّ الاستواء، ونتيجةً لهذا الموقع كانت السمة العامّة لهذه المنطقة قلّة الأمطار وندرتها، وارتفاع درجات الحرارة، وغياب الغطاء النباتي الطبيعي، ووجود بيئةٍ صحراوية قاسية، لا تجد فيها مفرداتٍ لغويّة تنبيء عن الخصوبة والبرودة والوفرة المائيّة.
وهذه السمة المناخيّة طويلةٌ في تاريخ المنطقة، تمتدّ جذورها ضاربةً في أعماق التاريخ القديم، وإننا نجد ذلك واضحاً عند تأمّل القرآن الكريم، فالآية التي تتحدّث عن هروب موسى عليه السلام إلى مدين –وهي واقعةٌ في شبه الجزيرة- تقول: { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} (القصص:23)، ولولا الجفاف لما كان الازدحام على الآبار. وفي نذارةِ هودٍ عليه السلام لقومه بالأحقاف دليلٌ على المناخ الصحراوي، قال تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف} (الأحقاف:21)، والأحقاف كما يقول المفسّرون: " جبالٌ من الرمل"، كما نجد في دعاءإبراهيم عليه السلام وصفاً للمشهد المناخي في زمانه: { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} (إبراهيم:37).
ولكن ماذا عن الماضي السحيق؟ يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً) أي أنها كانت كذلك في السابق، والمرج عند أهل اللغة: الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرج فيه الدواب، أي: تسرح مختلطة كيف شاءت.
وكلّ دارس للجيولوجيا يعلم ما شهدته الكرة الأرضيّة في فجر التاريخ من عصرٍ جليدي شديد البرودة وما تلاه من ذوبانٍ لذلك الجليد، وبحسب التوزيع الحراري يقتضي ذلك أن شبه الجزيرة وفي وقتٍ لاحقٍ كانت معتدلة المناخ دافئةً نسبيّاً، الأمر الذي يشير إلى تهيّؤ ظروفٍ ساعدت على نزول الأمطار الغزيرة ونشوء الغابات وجريان الأنهار.
ويدور حديثٌ في الأوساط العلميّة خصوصاً عند علماء الجيولوجيا عن وجود قرائن على حقبةٍ مطيرةٍ في الجزيرة العربيّة، وتم أخذ القرائن من خلال بعض الصور التي التُقطت بالأقمار الصناعيّة للمنطقة، إضافةً لبعض الأدلّة الأركيولوجيّة (الأحفوريّة) التي تؤكّد هذا التصوّر، وبغض النظر عن قوّة تلك القرائن أو ضعفها، إلا أننا نجزم بأن هذا الواقع الجغرافيّ السابق لشبه الجزيرة العربيّة هو حقيقةٌ علميّة نستمدّها من الوحي الصادق الذي يُخبرنا عمّا لا نعلم.
أما المستقبل فيُشير إلى العودة الثانية للغطاء النباتي المكلَّل بالأنهار لشبه الجزيرة العربيّة، لكن يبقى السؤال: هل الحديث يشير إلى العودة الكاملة الطبيعيّة لهذه المظاهر؟ أم أنها بسبب الجهود الزراعيّة وتدخّل الإنسان؟ هنا نقف على مفترق طرق،فالإمام القرطبي يرى أن هذه المظاهر ستكون بفعل التدخّل البشري وجهوده في الاستصلاح ، وفي ذلك يقول: " وتنصرف دواعي العرب –أي آخر الزمان- عن مقتضى عادتهم من انتجاع الغيث والارتحال عن المواطن للحروب والغارات، ومن عزة النفوس العربية الكريمة الأبية إلى أن يتقاعدوا عن ذلك، فيشتغلوا بغراسة الأرض وعمارتها وإجراء مياهها، كما قد شوهد في كثير من بلادهم وأحوالهم".
بينما يشير المشتغلون بعلم الأرصاد والمناخ، والدارسون للعلوم الطبيعية، أن معالم الفترة الجليدية القادمة قد بدأت، وما يستلزمه ذلك من التغيّر المناخي لمنطقة شبه الجزيرة العربية، ويصب في ذات الاتجاه الكلام عن الاحتباس الحراري الذي يؤدي إلى ذوبان الجليد والتأثير على الجزيرة العربية، ولكن على المدى البعيد.
وسواءٌ علينا التفسير الأوّل أو الثاني، فكلاهما يشملهما الحديث لأن مؤدّاهما واحد، وحقيقتهما واحدة؛ فإن الحديث لم يكن نصّاً على طريقةٍ بعينها، وإنما تحدّث عن النتائج وعن التصوّر المستقبلي: عودة جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، ولعل في الأحاديث التي تذكر الأحوال في آخر الزمان حين نزول نبي الله عيسى عليه السلام، وما تدلّ عليه من إخراج الأرض لبركاتها، أن تحقّق هذه النبوءة سيكون في أكمل صوره آخر الزمان.
وثمّة حديث آخر له علاقةٌ جزئيّة بقضيّتنا، وهي ازدهار منطقة تبوك تحديداً بالجنان، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له في غزوة تبوك: (يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة، أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً) متفق عليه.
والقُرب الذي يدلّ عليه لفظ الحديث (يوشك) ليس بالضرورة أن يستلزم رؤية معاذٍ رضي الله عنه لتأويل هذه النبوّة وتحقّقها، لأن القُرب قربٌ نسبي، بدليل أن بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- بذاتها كانت دليلاً على القرب الشديد لقيام الساعة، وقد مرّ على بعثته ما يزيد على الألف والأربعمائة عام.
وعلى أية حال، فإن كلّ زائر لمدينة تبوك في أيامنا هذه يعلم التوسّع الزراعي فيها وما تخرجه أرضها من الثمرات المتنوّعة، وما تزدان به مدينتها من الأشجار والحدائق، ولا ندري، لعل المستقبل يُخفي لنا تجلّياً أكبر لهذه النبوّة، وصدق الله القائل: { إن هو إلا وحي يوحى} (النجم:4).