في ذي الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية وفي المدينة المنورة وُلِدَ للنبي صلى الله عليه وسلم آخر أبنائه إبراهيم عليه السلام من مارية القبطية رضي الله عنها، التي أهداها المقوقس حاكم مصر إليه صلى الله عليه وسلم في العام السادس من الهجرة، فأسلمت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُلِدَ لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين (حداد) يقال له: أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول) رواه مسلم.
وروى مسلم في كتاب: "الفضائل، باب: رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال" عن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينا (حداداً)، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع).
ولم يَعِشْ إبراهيم طويلاً، فقد تُوفِىَّ بالمدينة المنورة في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، قال النووي: " كان له صلى الله عليه وسلم ثلاثة بنين: القاسم وبه كان يُكَّنَّي، وُلِدَ قبل النبوة، وتوفي وهو ابن سنتين، وعبد الله وسُمي الطيب والطاهر، لأنه وُلِد بعد النبوة، وإبراهيم وُلد بالمدينة سنة ثمان، ومات بها سنة عشر وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر. وكان له أربع بنات: زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد، وفاطمة تزوجها علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، تزوج رقية ثم أم كلثوم وتوفيتا عنده ولهذا ُسمِّي ذا النورين، توفيت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة. فالبنات أربع بلا خلاف، والبنون ثلاث على الصحيح، وأول من وُلد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، وجاء أن فاطمة أكبر من أم كلثوم، وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم توفوا قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر على الأصح والأشهر".
ويصف أنس بن بن مالك رضي الله عنه حال وموقف النبي صلى الها عليه سلم عند لحظة موت ابنه إبراهيم فيقول: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سيف القَيْن (الحداد)، وكان ظِئْرًا لإبراهيم (أباً له من الرضاعة)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.
قال المناوي: "فيه الرخصة في البكاء بلا صوت والإخبار عما في القلب من الحزن، وإن كان كتمه أولى، ودمع العين وحزن القلب لا ينافي الرضى بالقضاء، وقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئا بالرضى".
وقد كسفت الشمس يوم موت ابراهيم، وقال الناس: كسفت لموت إبراهيم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال في خطبته: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوِّفُ بِهِما عبادَه، وإنَّهما لا ينكَسِفان لموت أحدٍ، فإذا رأيتُم كسوف أحدهما فصلُّوا وادعوا حتَّى ينكشِفَ ما بكم) رواه النسائي وصححه الألباني، وقد حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفاته حزناً عظيماً وبكى على وفاته، قال ابن عبد البر: "ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم دون رفع الصوت".
وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم دليل على مدى رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك في تقبيله وشمه لابنه وقت مرضه، وحزنه وبكاؤه وقوله بعد موته:(وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، وكذلك ظهر مدى أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل - مع حزنه الشديد - أي كلمة تدل على جزعه وعدم صبره ورضاه بقضاء الله وقدره، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولا نقول إلا ما يرضى ربّنا)، فكان صلوات الله وسلامه عليه مثالاً وقدوة عملية في الصبر والرضا، والأدب مع الله عز وجل.
المتأمل في السيرة النبوية يرى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مع علو قدره ومنزلته قد أصابه مثل ما يصيب الناس من فراق الأهل والأحباب، فصبَرَ صبراً جميلا، وهو الصبر الذي لا تسخط فيه ولا جزع، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره، فقد ابْتُلِي صلى الله عليه وسلم بفقد ابنه إبراهيم، بل ابتلي بفَقْدِ جميع أبنائه في حياته عدا ابنته فاطمة رضي الله عنها، ومن أشد المصائب على الإنسان موت أحد أولاده، فكان صلوات الله وسلامه عليه يستقبل هذا البلاء بالصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، وما كانت تتعدى ردةُ فعله على فراق أولاده ومنهم إبراهيم إلا دموعه الشريفة، وكان يقول: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرْضِى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، وفي ذلك تسلية للمُصاب والمُبْتَلَى بفقد أحد من الأهل والأحباب.